فإن اجتهد الإنسان و فعل ما رسم في الشريعة
من لزوم أحكامها و مفروضاتها، و عمل بما وصف في الفلسفة و صبر عليه مدة ما، فعما
قليل يخفّ عليه كلّ ما هو فيه من تجاذب الطبيعتين المتضادتين، إلى أن يصير التدبير
إلى زحل بعد إحدى عشرة سنة، و هو صاحب السكون و الهدوء و الكسل، و جمود نيران
الشهوات الجسمانية، و ذهاب القوى الحيوانية، و استرخاء الأعصاب، و ذبول الآلات
الجسدانية، و وقوف الحواس عن مباشرة المحسوسات. ثم لا يمكن للنفس إظهار الأفعال، و
لا تناول اللذات، فعند ذلك تقلّ رغبته في هذه الدنيا، و ينقطع طمعه في المقام في
عالم الكون و الفساد. ثم يجيئه الموت الطبيعي على التدريج إذا انطفأت الحرارة
الغريزية من البدن، و انسلّت الروح الحيوانية من الجسد، كما ينطفئ السراج و يذهب
الضوء، إذا فني الدهن و احترقت الفتيلة.
فإن كان الإنسان قد ارتاض فيما مضى من عمره، و تعلم علما من العلوم،
و أدبا من الآداب، أو صناعة من الصنائع، أو تديّن بمذهب من الآراء، أو عمل عملا من
الأعمال يهدى به إلى طريق الآخرة و أمر المعاد، فإنه يرجى لتلك النفس أن تهتدي إلى
الرجوع إلى عالمها النفساني و محلّها الروحاني، و اللّحوق بأبناء جنسها الذين مضوا
قبلها، و وصلوا إلى هناك، و تخلصوا من دركات عالم الكون و الفساد، و حريق نيران
الآلام و الأسقام و الأمراض، و الجوع و العطش، و البرد و الحر، و التعب و الكدّ و
العناء، و الفقر و مشقّة الأعمال المتعبة، و الأفعال السمجة القبيحة، و حرارة
الحرص و الرغبة و الشهوات المردية، و العادات الرديئة، و الأخلاق الوحشية، و
الجهالات المتراكمة، و الأعمال السيئة، و ما يلحق أهلها من العبادات و المباغضات
فيما بينهم، و من حسد الجيران، و عداوة الأقران، و جور السلطان، و وساوس الشيطان،
و نكبات الزمان، و نوائب الحدثان.
فإن قال قائل من المنكرين لأفعال الكواكب و تأثيراتها في هذه