فصل في أن الحكم على الأشياء بالعقل و
الحث على تحرّي الصواب
و اعلم يا أخي بأن الإنسان قادر على أن يقول خلاف ما يعلم، و لكن لا
يقدر أن يعلم خلاف ما يعقل، و ذلك أنه يمكنه أن يقول: زيد قائم قاعد في حال واحدة،
و لكن لا يمكنه أن يعلم ذلك، لأن عقله ينكره عليه.
فلما كان هذا هكذا فلا ينبغي أن ينزل بالحكم على قول القائلين، و لكن
على حكم العقول.
و اعلم يا أخي بأن أهل كل صناعة يحرصون على حفظ أنفسهم من الخطإ و
الزلل في صناعتهم، و ذلك أن أهل كل علم يتجنّبون الخطأ، و يتحرّون الصواب و الحق،
و يجتهدون في ذلك، فينبغي لإخواننا، أيّدهم اللّه و إيانا بروح منه، و من يتعاطى
منهم المنطق الفلسفي أن يحفظ أقاويله من التناقض من أولها إلى آخرها؛ فإن من
المتكلّمين من يحفظ أقاويله من التناقض في مجلس واحد أو عدّة مجالس، و لكن قلّ من
يحفظ كلّ أقاويله من أوائلها إلى أواخرها، حتى لا يناقض بعضها بعضا. مثال ذلك من
قال في كتاب له:
إن من شأن النفس أن تتبع مزاج البدن. ثم قال في كتاب آخر: إن النفس
مزاج البدن. ثم قال في كتاب آخر: لا أدري ما النفس؟ أو مثل من يعتقد بأن اللّه،
عزّ و جل، خلق الخلق لينفعهم، ثم يقول و يعتقد بأنه لا يغفر لهم و لا يخرجهم من
النار. و مثل من يعتقد بأن المكان جسم أو عرض حالّ في الجسم، ثم يعتقد أنه يبطل
الجسم و يبقى المكان فارغا. و مثل من يقول: إن الجزء لا يتجزأ. ثم يعتقد بأن له
ستّ جهات، و هو يشغل الحيّز، و ما شاكل ذلك من الأقاويل المتناقضة و الآراء
الفاسدة يعتقدها إنسان واحد في نفسه، ثم يتعاطى مع هذا المنطق الفلسفي و البرهان
الحقيقي.
و اعلم يا أخي علما يقينا بأن أهل كل صناعة و علم إذا لم يكن لهم
أصل