صحيح في صناعتهم، منه يتفرّع علمهم، و قياس
مستو، عليه يقاس ما يعملونه، مثل صناعة العدد كما بيّنّا قبل، فإنه لا يمكنه أن
يتحرّز فيه من الخطإ، و لا أن يتجنّب فيه من الباطل، لأن الأصل إذا كان خطأ
فالفروع عليه تدور.
و اعلم بأن من لا يحسّ بالتناقض في أقاويله، فكيف يوثق به في آرائه و
اعتقاده، و كيف يؤمن عليه أنه غير معتقد آراء متناقضة، و يكون فيها مخالفا لنفسه و
لا يدري، و كيف يرجى منه الوفاق مع غيره و هو مخالف لنفسه، و مناقض لاعتقاده، و
جاهل في معلوماته؟
فصل في أن المنطق أداة الفيلسوف
و اعلم يا أخي بأن الحكماء المنطقيّين إنما وضعوا القياس المنطقي، و
استخرجوا البرهان الصحيح، ليكون المتعاطي للمنطق يبتدئ أولا، و يقيم البرهان من
عند نفسه على اعتقاداته. فإذا صحّت في نفسه تلك رام أن يصححها عند غيره. و قبل كلّ
شيء تحتاج يا أخي أن تعلم كيف تحفظ أقاويلك من التناقض، فإنك إذا فعلت ذلك فقد
أحكمت صناعة المنطق الفلسفي.
و اعلم بأن المنطق ميزان الفلسفة، و قد قيل إنه أداة الفيلسوف، و ذلك
أنه لما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة، صار من الواجب أن يكون
ميزان الفلسفة أصحّ الموازين، و أداة الفيلسوف أشرف الأدوات، لأنه قيل في حدّ
الفلسفة إنها التشبّه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
و اعلم بأن معنى قولهم: طاقة الإنسان، هو أن يجتهد الإنسان و يتحرّز
من الكذب في كلامه و أقاويله، و يتجنّب من الباطل في اعتقاده، و من الخطإ في
معلوماته، و من الرداءة في أخلاقه، و من الشرّ في أفعاله، و من الزلل في أعماله، و
من النقص في صناعته. هذا هو معنى قولهم: التشبّه بالإله بحسب طاقة الإنسان، لأن
اللّه، عزّ و جلّ، لا يقول إلّا الصدق، و لا يفعل إلا