لأنهم لم يكونوا يتفكّرون في أمر الآخرة و
المعاد، و لا يفقهون ما يقال لهم من معاني أمر الآخرة و طريق المعاد فقال: «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ
هُمْ غافِلُونَ». و قال عزّ و جلّ:
«فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ».
فصل في مثنوية قنية الانسان و مثنوية الأعمال
و لما تبيّن ان أكثر أمور الانسان و تصرّف أحواله مثنوية متضادّة، من
أجل انه جملة مجموعة من جوهرين متباينين، جسد جسمانيّ و نفس روحانية، كما بيّنّا
قبل، صارت قنيته أيضا نوعين: جسمانية، كالمال و متاع الدنيا، و روحانية، كالعلم و
الدين، و ذلك ان العلم قنية للنفس، كما ان المال قنية للجسد. و كما ان الانسان
يتمكن بالمال من تناول اللذّات من الأكل و الشرب في الحياة الدنيا، فهكذا بالعلم
ينال الإنسان طريق الآخرة، و بالدين يصل اليها، و بالعلم تضيء النفس و تشرق و
تصحّ، كما ان بالأكل و الشرب ينمي الجسد و يزيد و يربو و يسمن. فلما كان هكذا صارت
المجالس أيضا اثنين:
مجلس للأكل و الشرب و اللهو و اللعب و اللذّات الجسمانية، من لحوم
الحيوان و نبات الأرض، لصلاح هذا الجسد المستحيل الفاسد الفاني؛ و مجلس للعلم و
الحكمة و سماع روحانيّ من لذّة النفوس التي لا تبيد جواهرها، و لا ينقطع سرورها في
الدار الآخرة، كما ذكر اللّه، جلّ ثناؤه، بقوله:
«وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها
خالِدُونَ». فلما كانت المجالس اثنين صار أيضا السائلون اثنين، واحد يسأل حاجة
من عرض الدّنيا، لصلاح هذا الجسد و لجرّ المنفعة اليه، أو لدفع المضرّة عنه؛ و
واحد يسأل مسألة من العلم، لصلاح أمر النفس و خلاصها من ظلمات الجهالة، أو للتفقّه
في الدين طلبا لطريق الآخرة، و اجتهادا في الوصول اليها، و فرارا من نار جهنم، و
نجاة من عالم