و هذا معروف بالمشاهدة و
التجربة و معلوم أن المكشوف من الأرض عن الماء كجزيرة صغيرة بالإضافة إلى كل الأرض
ثم انظر إلى المخلوق في الأرض و إلى سائر الحيوانات و إلى صغره بالإضافة إلى الأرض
و دع عنك ذلك فأصغر ما تعرفه من الحيوانات البعوض و النمل و ما يجري مجراه فانظر
في البعوض على صغر قدره و تأمل بعقل حاضر و فكر صاف و انظر كيف خلقه الله تعالى
على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات إذ خلق له خرطوما مثل خرطومه و خلق له على
شكله الصغير مثل سائر أعضاء الفيل بزيادة جناحين و انظر كيف قسم الله أعضاءه
الظاهرة فأنبت جناحه و أخرج يده و رجله و شق سمعه و بصره و دبر في باطنه من أعضاء
الغذاء و آلاته ما دبره في سائر الحيوانات و ركب فيها من القوى الغاذية و الجاذبة
و الدافعة و الماسكة و الهاضمة ما ركب في سائر الحيوانات بدل شكله و صغره ثم انظر
إلى هدايته كيف هداه الله تعالى إلى غذائه و عرفه غذائه ثم كيف أنبت له آلة
الطيران و كيف خلق له الخرطوم الطويل و هو محدد الرأس و كيف هداه إلى مسام بشرة
الإنسان حتى يضع خرطومه في أحد منها ثم كيف قواه على غرز[1] الخرطوم فيه و كيف علمه المص و
التجرع للدم و كيف خلق الخرطوم مع دقته مجوفا حتى يجري فيه الدم الرقيق و ينتهي
إلى باطنه و يسير في سائر أجزائه و يغذيه ثم كيف عرفه أن الإنسان يقصده بيده فعلمه
حيلة الهرب و استعداد آلته و خلق له السمع الذي يسمع به حفيف[2] حركة اليد و هي بعد بعيد منه فيترك
المص و يهرب ثم إذا سكنت اليد يعود ثم انظر كيف خلق له حدقتين حتى يبصر موضع غذائه
فيقصده مع صغر حجم وجهه و انظر إلى حدقة كل حيوان صغير لما لم تحتمل الأجفان حدقته
لصغره و كانت الأجفان مصقلة لمرآة الحدقة عن القذى و الغبار خلق الله للبعوض و
الذباب يدين فتنظر إلى الذباب فتراه على الدوام يمسح حدقتيه بيديه و أما الإنسان و
الحيوان الكبار خلق لحدقيته الأجفان حتى يطبق
[1] غرز غرزا من باب ضرب: أدخل كما يقال غرزت
الابرة في الشيء و العود في الأرض.
[2] حفيف الشيء بالحاء المهملة: ما يبدى من صوته
عند حركته و يصرف من باب ضرب.
نام کتاب : مجموعة ورّام (تنبيه الخواطر و نزهة النواظر) نویسنده : ورّام بن أبي فراس جلد : 1 صفحه : 226