(79) ظنّ العامّة أن لا لذّة غير الحسية، و لم يعلموا أنّ لذة[2] الملائكة يشهدون جلال الله- أعظم و
أتمّ و أبهج من لذّات[3] البهائم
بمآكلها و مشاربها[4].
و اعلم أنّ «اللّذة» هي إدراك ما وصل من كمال المدرك و خيره إليه،
إذا لم يكن مضادّ و لا شاغل. و «الألم» هو إدراك ما وصل من آفة المدرك و شرّه
إليه، إذا لم يكن شاغل و لا مضادّ. و لكلّ من المشاعر لذّة و ألم بحسبه: فللبصر ما
يتعلّق بالمبصرات، فلذّته فيما يلائمه منها، و ألمه فيما لا يلائمه؛ و للشمّ ما
يتعلّق بالمشمومات؛ و للذوق في المطعومات؛ و للشهوة ما بحسبها؛ و للغضب ما بحسبه
من الغلبة و القهر؛ فلكل واحد من هذه لذة تخصّه بما يلائمه و ألم بما لا يلائمه[5]، حتى أنّ التذاذ الشّم برائحة
الندّ و تألّمه برائحة كريهة، لا يشاركه فيهما[6]
لا سمع و البصر.
(80) و كمال الجوهر العاقل منا الانتقاش بالحقائق و معرفة الحق و
عجائب ملكوته و ملكه؛ و من جهة علاقته مع البدن: بأن[7]
يستولي على القوى البدنية و لا يستولي هي عليه؛ و أن يكون شهوته و غضبه و فكره في
تدبير الحياة، على الاعتدال و على ما يقتضي الرأي الصحيح. و نقصه في الجهل و تسلّط
قوى البدن عليه. و كما أنّ النفس أشرف من قوى البدن، فنقوشه و مدركاته من جلال
الحق الأوّل و ملكوته، أشرف ممّا يدركه الحواس بما لا يتقايس. فلذّته أتمّ من لذة
الحواسّ أيضا بما لا يتقايس. و إنّما لا يلتذّ العالم و لا يتألّم الجاهل للشواغل
البدنية كالسّكران الطافح الذي يزوره معشوقه فلا يلتذّ، و يشمت به[8] العدوّ و يضربه[9]
و لا يتألّم، فإذا أفاق عظم ألمه.
(81) و قد ينكر البدنيّون لذّة الروحانيات[10]
لأنّهم ما ذاقوا، كالعنّين ينكر لذة الوقاع.
و إذا ارتفع شواغل البدن تلتذّ النفس العارفة بمشاهدة الملكوت و
بإشراق أنوار الحق. و قد جاء في التنزيل مثنى يدل على حضور القدسي و هو قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها