«فلا عجب- والحالة هذه- إذا كثر المؤلفون وتعددت مؤلفاتهم واتسعت مباحثهم، وكان منهم الملوك والأُمراء والوزراء والأغنياء والفقراء، وفيهم العرب والفرس والروم واليهود والسريان والهنود والترك والديلم والقبط، وغيرهم من الملل الخاضعة للإسلام في أنحاء العالم المتمدن يومئذ، فى الشام ومصر والعراق وفارس وخراسان و ماوراء النهر والهند وفي المغرب والأندلس وغيرها. وقد حوت مؤلفاتهم البحث في كلّ ما أنتجته قريحة الإنسان الى ذلك الزمان، من الطبيعيات والإلهيات والعقليات والرياضيات والنقليات. ودعت أبحاثهم الواسعة الى تشعب العلوم وتفرّعها»[1].

كان‌في بدءحركةترجمة العلوم أكثر العلماء من المسيحيّين ولا سيما السُريانيين، إلّا أنّ المسلمين شغلوا أماكنهم الشاغرة بعدهم تدريجيّاً. يقول جرجي زيدان:

«إنّ بذور العلم التي ألقاها خلفاء النهضة العباسية في بغداد ظهرت ثمارها في خراسان والرى وخوزستان وآذربايجان وماوراء النهر، وفي مصر والشام والأندلس وغيرها. وظلت بغداد مع ذلك حافلة بالعلماء بقوة الاستمرار وبما فيه من أسباب الثروة ولأنها مركز الخلافة. فنبغ فيها جماعة من أهل العلم المسلمين، فضلًا عن الأطبّاء النصارى الذين كانوا يخدمون الخلفاء في التطبيب والترجمة. على أنّ أكثر العلماء غير المسلمين الذين نبغوا فيها بعد تلك النهضة كانوا يتقاطرون إليها من أنحاء جزيرة العراق وغيرها لخدمة الخلفاء. أما المسلمون فالغالب أن يكون ظهورهم خارج العراق، ولا سيما وأن أكثر ملوك الدول الجديدة التي تفرعت من الدولة العباسية اقتدوا بخلفاء النهضة العباسية في ترغيب أهل العلم واستقدامهم الى عواصمهم في القاهرة وغزنة ودمشق ونيسابور واصطخر وغيرها، فالرازي من ري وابن سينا من بخارا في تركستان، والبيروني من بيرون في بلاد السند، وابن جلجل‌

[1] تاريخ التمدّن الإسلامي 193: 3، جرجي زيدان ط، د. حسين مؤنس.