الثالث، أعني علم الحاكم، الذي هو حجّة بذاته، و هو أقوى الطرق، بل ما سلكه من عدم ذكر الطريق الثالث كان شيئاً متعارفاً في كلام قدماء الأصحاب.
و نحن قد بحثنا عن مسألة علم الحاكم في مبحث ما يثبت به الزنا[1] بما لا مزيد عليه، و ذكرنا الأقوال و الأخبار الواردة، و رجّحنا هناك جواز حكم القاضي بمقتضى علمه.
و المراد بالعلم هو الاطّلاع الجازم المستند إلى الحسّ أو الحدس القريب من الحسّ، الحاصل من الطرق العاديّة و القرائن العلميّة، دون مثل الإلهام و الكشف و غيرهما.
أجل، نحن ذهبنا بمقتضى إمعان النظر في بعض الأحاديث الواردة في أبواب الزنا و اللواط و المساحقة إلى استثناء العلم الحاصل للقاضي بالجرائم الأخلاقيّة الجنسيّة، و قلنا: إنّه لا يجوز للقاضي العمل بعلمه في تلك الجرائم، بل كان للإقرار بها أو شهادة الشهود عليها موضوعيّة في تنفيذ الحكم.
و من المؤسف عليه أنّ فقهاءنا رحمهم الله قد غفلوا عن ذكر هذا الطريق، أعني علم الحاكم في إثبات جريمة الشرب، و قد حذوا في ذلك حذو القدماء، مع أنّ مشهورهم قد اعترفوا بحجّيّته و أثبتوها مراراً.
نعم، ذهب من العامّة المالكيّة و الحنابلة إلى عدم جواز قضاء الحاكم بعلمه، و هذا أحد قولي الشافعيّ. و فرّق أبو حنيفة بين حقوق اللَّه تعالى فلا يحكم فيه القاضي بعلمه، و بين حقوق الناس فيحكم طبقه في ما إذا حصل علمه في زمن ولايته دون ما إذا حصل قبله.
و المعتمد عند المتأخّرين من الحنفيّة- و هو المفتى به- عدم جواز قضائه بعلمه مطلقاً في هذه الأزمنة، و ذلك لفساد قضاة الزمان.
و قد نقلنا تفصيل آرائهم حول حجّيّة علم القاضي و عدمه في مبحث طرق إثبات الزنا، فراجع.
[1]- راجع: الجزء الأوّل من هذا الكتاب، صص 244-/ 251- و راجع أيضاً: فقه القضاء، ج 1، صص 290-/ 307.