أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ أَتَانِي مِنْكَ كِتَابٌ يَا عُمَرُ تُؤَنِّبُنِي[1] وَ تُعَيِّرُنِي وَ تَذْكُرُ فِيهِ أَنَّكَ بَعَثْتَنِي أَمِيراً عَلَى أَهْلِ الْمَدَائِنِ وَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقُصَّ أَثَرَ حُذَيْفَةَ[2] وَ أَسْتَقْصِيَ أَيَّامَ أَعْمَالِهِ وَ سِيَرِهِ ثُمَّ أُعْلِمَكَ قَبِيحَهَا وَ قَدْ نَهَانِيَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ يَا عُمَرُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[3] وَ مَا كُنْتُ لِأَعْصِيَ اللَّهَ فِي أَثَرِ حُذَيْفَةَ وَ أُطِيعَكَ وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنِّي أَقْبَلْتُ عَلَى سَفِّ الْخُوصِ[4] وَ أَكْلِ الشَّعِيرِ فَمَا هُمَا مِمَّا يُعَيَّرُ بِهِ مُؤْمِنٌ وَ يُؤَنَّبُ عَلَيْهِ وَ ايْمُ اللَّهِ يَا عُمَرُ لَأَكْلُ الشَّعِيرِ وَ سَفُّ الْخُوصِ وَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ رَفِيعِ الْمَطْعَمِ وَ الْمَشْرَبِ وَ عَنْ غَصْبِ مُؤْمِنٍ حَقَّهُ وَ ادِّعَاءِ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ أَفْضَلُ وَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص إِذَا أَصَابَ الشَّعِيرَ أَكَلَ وَ فَرِحَ وَ لَمْ يُسْخِطْهُ وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ إِعْطَائِي- فَإِنِّي قَدَّمْتُهُ لِيَوْمِ فَاقَتِي وَ حَاجَتِي وَ رَبِّ الْعِزَّةِ يَا عُمَرُ مَا أُبَالِي إِذَا جَازَ طَعَامِي لَهَوَاتِي وَ انْسَاغَ[5] فِي حَلْقِي أَ لُبَابُ الْبُرِّ وَ مُخُّ الْمِعْزَةِ كَانَ أَوْ خُشَارَةُ الشَّعِيرِ[6] وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنِّي ضَعَّفْتُ سُلْطَانَ اللَّهِ وَ أَوْهَنْتُهُ وَ أَذْلَلْتُ نَفْسِي وَ امْتَهَنْتُهَا[7] حَتَّى جَهِلَ أَهْلُ الْمَدَائِنِ إِمَارَتِي وَ اتَّخَذُونِي جِسْراً يَمْشُونَ فَوْقِي وَ يَحْمِلُونَ عَلَيَّ ثِقْلَ حَمُولَتِهِمْ[8] وَ زَعَمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِنُ سُلْطَانَ اللَّهِ وَ يُذِلُّهُ فَاعْلَمْ أَنَّ التَّذَلُّلَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ التَّعَزُّزِ فِي مَعْصِيَتِهِ وَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص يَتَأَلَّفُ النَّاسَ[9] وَ يَتَقَرَّبُ مِنْهُمْ وَ يَتَقَرَّبُونَ مِنْهُ فِي نُبُوَّتِهِ وَ سُلْطَانِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ بَعْضُهُمْ فِي الدُّنُوِّ مِنْهُمْ وَ قَدْ
[1] أنبه: عنفه و لامه.
[2] قص إثره: تتبعه شيئا فشيئا.
[3] الحجرات: 12.
[4] سف الخوص: نسجه.
[5] انساغ: مر في حلقه.
[6] الخشارة: ما لا لب له من الشعير.
[7] أي وضعتها موضع الإهانة.
[8] كل ما له قدر، و وزن: فهو ثقل. و الحمولة- بالفتح- الإبل التي تطيق أن يحمل عليها.
[9] التألف: المداراة و الاستيناس.