ولمّا كانت
الاستعاذة في السورة المتقدّمة من المضارّ البدنيّة ، وهي تعمّ الإنسان وغيره ،
والاستعاذة في هذه السورة من الأضرار الّتي تعرض للنفوس البشريّة ، عمّم الإضافة
ثمّ ، وخصّصها بالناس هاهنا ، فقال :
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ولمّا كانت الاستعاذة وقعت من شرّ الموسوس في صدور
الناس ، فكأنّه قيل : أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بربّهم الّذي يملك أمورهم
ويستحقّ عبادتهم ، كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيّدهم ومخدومهم ووالي
أمرهم.
(مَلِكِ النَّاسِ *
إِلهِ النَّاسِ) عطف بيان له ، فإنّ الربّ قد لا يكون ملكا ، والملك قد
لا يكون إلها. والإله خاصّ لا شركة فيه ، فجعل غاية للبيان.
وقيل : ليس في «الناس»
تكرار ، لأنّ المراد بالأوّل : الأجنّة ، ولهذا قال : (بِرَبِّ النَّاسِ) ، لأنّه يربّيهم. وبالثاني : الأطفال ، ولذلك قال : (مَلِكِ النَّاسِ) لأنّه يملكهم. وبالثالث : البالغون المكلّفون ، ولذلك
قال : (إِلهِ النَّاسِ) ، لأنّهم يعبدونه.
وبالرابع :
العلماء ، لأنّ الشيطان يوسوس إليهم. ولا يريد الجهّال ، لأنّ الجاهل يضلّ بجهله ،
وإنّما يوقع الوسوسة في قلب العالم ، كما قال : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ
الشَّيْطانُ)[١].
وقيل : في هذا
النظم دلالة على أنّه حقيق بالإعادة ، قادر عليها ، غير ممنوع عنها. وإشعار على
مراتب الناظر في المعارف ، فإنّه يعلم أوّلا بما يرى عليه من النعم الظاهرة
والباطنة أنّ له ربّا. ثمّ يتغلغل في النظر حتّى يتحقّق أنّه غنيّ عن الكلّ ، وذات
كلّ شيء له ، ومصارف أمره منه ، فهو الملك الحقّ. ثمّ يستدلّ به على أنّه المستحقّ
للعبادة لا غير. وتدرّج في وجوه الاستعاذة كما يتدرّج في الاستعاذة المعتادة ،
تنزيلا لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات ، إشعارا بعظم الآفة