صدر الكلام ، كقولك : أعلى زيد مررت؟ ولا تقول : على أزيد مررت؟ لأنّ «من»
دالّ على معنيين معا : معنى الاسم ، ومعنى الحرف. وأصله : أمن ، فحذف حرف
الاستفهام ، واستمرّ الاستعمال على حذفه ، كما حذف من «هل» والأصل : أهل. فإذا دخل
حرف الجرّ على «من» فقدّر الهمزة قبل حرف الجرّ ، كأنّك تقول : أعلى من تنزّل
الشياطين؟ كما تقول : أعلى زيد مررت؟
(يُلْقُونَ السَّمْعَ) يلقي الشياطين ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى أوليائهم
، وهم الكهنة والكذّابون ، ويخلطون به كثيرا من الأكاذيب ، ويوحونه إليهم (وَأَكْثَرُهُمْ) وأكثر الشياطين الأفّاكين الآثمين يلقون السمع إلى
الشياطين ، فيتلقّون وحيهم إليهم (كاذِبُونَ) فيما يلقون إلى الكهنة ، لأنّهم يسمعونهم ما لم يسمعوا
، أي : لا على نحو ما تكلّمت به الملائكة ، لشرارتهم ، أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو
أفهامهم. أو أكثر الأفّاكين كاذبون ، يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم.
وفي الحديث : «الكلمة
يتخطّفها الجنّي فيقرّها في أذن وليّه ، فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة». والقرّ :
الصبّ.
قال الحسن : هم
الّذين يسترقون السمع من الملائكة فيلقون إلى الكهنة.
وهذا قبل أن يوحى
إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبعد ذلك فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.
وقيل : المراد
بالأكثر الكلّ ، لقوله : (كُلِّ أَفَّاكٍ
أَثِيمٍ). والأظهر أنّ الأكثريّة باعتبار أقوالهم ، على معنى أنّ
هؤلاء قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجنّي.
والحاصل : أنّ
الله سبحانه بيّن أنّ محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يصلح أن تتنزّل الشياطين عليه من وجهين :
أحدهما : أنّه
إنّما يكون تنزّلهم على كلّ شرّير كذّاب كثير الإثم ، فإنّ اتّصال الإنسان
بالغائبات لما بينهما من التناسب والتوادّ ، وحال محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم