ولمّا مثّل
الله تعالى حال المنافقين بحال المستوقدين ، وأصحاب الصيّب وعبادة الأصنام في
الوهن والضعف ببيت العنكبوت ، وجعلها أقلّ من الذباب وأخسّ قدرا منه ، قالوا :
الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي) أي : لا يترك (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً
ما بَعُوضَةً).
فهذه الآية
لبيان أنّ ما استنكروه من أن تكون المحقّرات من الأشياء مضروبا بها المثل ليس
بموضع الاستنكار ، لأنّ في التمثيل كشف المعنى الممثّل له ، ورفع الحجاب عنه ،
وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، فإن كان الممثّل له عظيما كان الممثّل به مثله
، وإن كان حقيرا كان الممثّل به كذلك ، ليساعد فيه الوهم العقل ، فإنّ المعنى
الصرف إنّما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لأنّ من طبع الوهم الميل إلى الحسّ
وحبّ المحاكاة ، وإن كان الممثّل أعظم من كلّ عظيم ، كما مثّل في الإنجيل غلّ
الصّدر بالنخالة ، والقلوب القاسية بالحصاة ، ومخاطبة السّفهاء بإثارة الزنابير ،
وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد ، وأطيش من فراشة ، وأعزّ من مخّ البعوض ، لا
ما قالت الجهلة من الكفّار.
والحياء انقباض
النفس عن القبيح مخافة الذمّ. وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح
وعدم المبالاة بها ، والخجل الّذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا.
واشتقاقه من
الحياة ، فإنّه انكسار يعتري القوّة الحيوانيّة فيردّها عن افعالها ، فقيل : حيي
الرجل أي : انتقص حياته ، مثل نسي إذا اعتلّت نساه ، وهو عرق يخرج من الورك إلى
العرقوب ، وحشي إذا اعتلّ حشاه وهو الفؤاد.
وإذا وصف به
الباري تعالى كما جاء في الحديث : «إنّ الله يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذّبه
، إنّ الله حييّ كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه إليه أن يردّهما صفرا حتى يضع
فيهما خيرا» ، فالمراد به الترك اللازم للانقباض ، كما أنّ