ولم يقل : الله
مستهزئ بهم ، ليطابق قولهم ، إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالا فحالا ، ويتجدّد حينا
بعد حين ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم ، كما قال : (أَوَلا يَرَوْنَ
أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ)[١] ، وما كانوا في أكثر أوقاتهم من تهتّك أستار وتكشّف
أسرار.
(وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) من : مدّ الجيش وأمدّه ، إذا زاده وألحق به ما يقوّيه
ويكثره. وكذلك مدّ الدّواة وأمدّها : زادها ما يصلحها. ومنه : مددت السراج والأرض
، إذا استصلحتهما بالزيت والسماد. ومدّه الشيطان في الغيّ وأمدّه : إذا وصله
بالوساوس حتى يتلاحق غيّه ويزداد انهماكا فيه ، لا من المدّ في العمر ، فإنّه
يعدّى باللام كـ : أملى له. ويدلّ عليه قراءة ابن كثير : ويمدّهم.
والمعنى : أنّه
يمنعهم ألطافه الّتي يمنحها المؤمنين ، ويخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم ، فتبقى
قلوبهم متزايدة الرّين والظلمة كتزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين. أو مكّن
الشيطان من إغوائهم ، ولم يمنعه منهم قسرا وإلجاء ، فزادهم طغيانا ، فأسند ذلك
الزائد إلى الله سبحانه ، لأنّه مسبّب عن فعله بهم من منع الألطاف بسبب إصرار
كفرهم ، إسناد الفعل إلى المسبّب.
والطغيان :
الغلوّ في الكفر ، ومجاوزة الحدّ في العتوّ. وأصله تجاوز الشيء عن مكانه. قال الله
تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْماءُ حَمَلْناكُمْ)[٢].
وأضاف الطغيان
إليهم لئلّا يتوهّم أنّ إسناد الفعل إليه سبحانه على الحقيقة ، بل يدلّ على أنّ
الطغيان والتمادي في الضلال ممّا اقترفته نفوسهم واجترحته أيديهم ، وأنّ الله بريء
منه ، ردّا لاعتقاد الكفرة القائلين : (لَوْ شاءَ اللهُ ما
أَشْرَكْنا)[٣] ،