ونفيا لو هم من عسى يتوهّم عند إسناد المدّ إلى ذاته لو لم يضف الطغيان
إليهم أن الطغيان فعله ، فلمّا أسند المدّ إليه على الطريق الّذي ذكر أضاف الطغيان
إليهم ليميط الشبهة ويقلعها ، ويدفع في صدر من يلحد في صفاته. ومصداق ذلك : أنّه
حين أسند المدّ إلى الشياطين أطلق الغيّ ولم يقيّده بالإضافة في قوله : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ)[١]. والعمه مثل العمى ، إلّا أنّ العمه في الرأي والبصيرة
خاصّة ، وهو التحيّر والتردّد لا يدري صاحبه أين يتوجّه ، والعمى في البصر.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) اختاروها عليه واستبدلوها به. وأصله بذل الثمن لتحصيل
ما يطلب من الأعيان ، ثم أستعير للإعراض عمّا في يده محصّلا به غيره ، سواء كان من
المعاني أو الأعيان ، ثم اتّسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعا في غيره.
والضلالة : الجور عن القصد وفقد الاهتداء ؛ يقال : ضلّ منزله ، فاستعير للذهاب عن
الصواب في الدين. والمعنى : أنّهم أخلّوا بالهدى الّذي جعل الله لهم بالفطرة الّتي
فطر الناس عليها محصّلين الضلالة الّتي ذهبوا إليها ، أو اختاروا الضلالة
واستحبّوها على الهدى.
ثم رشّح للمجاز
بقوله : (فَما رَبِحَتْ
تِجارَتُهُمْ) فإنّه لمّا استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما
يشاكله ، تمثيلا لخسارتهم. والربح : الفضل على رأس المال. والتجارة : طلب الربح
بالبيع والشراء. وأسند الخسران إلى التجارة وهو لأربابها على الاتّساع ، لتلبّسها
بالّذي هو له في الحقيقة وهو الفاعل ، أو لمشابهتها إيّاه من حيث إنّها سبب الربح
والخسران.
(وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ) لطرق التجارة ، فإنّ المقصود منها سلامة رأس المال
والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا ، لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة
والعقل الصرف ، فلمّا اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم واختلّ عقلهم ، ولم