وقوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) استئناف يبيّن سبب الإحلال ، وهو قلّة الصبر عنهنّ ،
وصعوبة الاجتناب عنهنّ ، لكثرة المخالطة ، وشدّة الملابسة ، وتلاصق أبدانكم بهنّ
التصاق اللباس بالبدن. فلمّا كان الرجل والمرأة يعتنقان ، ويشتمل كلّ واحد على
واحد ، شبّه باللباس ، أو لأنّ كلّا منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور.
(عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي : تخونونها بالمعصية ، ولا تؤدّون الأمانة بالامتناع
عن المباشرة ، أو تظلمونها بتعريضها للعقاب ، وتنقيص حظّها من الثواب. والاختيان
أبلغ من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب.
(فَتابَ عَلَيْكُمْ) قبل توبتكم لمّا تبتم ممّا اقترفتموه ، فرخّص لكم وأزال
التشديد عنكم (وَعَفا عَنْكُمْ) ومحا عنكم أثره (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) أي : جامعوهنّ حين نسخ عنكم تحريم المباشرة. والأمر
للإباحة بعد الحظر. وفيه دليل على جواز نسخ السنّة بالقرآن. والمباشرة إلزاق
البشرة بالبشرة ، كنّي به عن الجماع (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ
اللهُ لَكُمْ) واطلبوا ما قدّره لكم ، وأثبته في اللوح المحفوظ من
الولد. والمعنى : أنّ المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد ، فإنّه الحكمة من خلق
الشهوة وشرع النكاح ، لا قضاء الشهوة وحدها ، أو اطلبوا ما كتب الله لكم من الحلال
الّذي بيّنه في كتابه.
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) هذا أيضا أمر الاباحة (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ) أي : يظهر ويتميّز لكم على التحقيق (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) شبّه أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق ، وما
يمتدّ معه من ظلمة اللّيل بخيطين أبيض وأسود. واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله : «من
الفجر» عن بيان الخيط الأسود ، لدلالته عليه ، وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى
التمثيل ، كما أنّ قولك : رأيت أسدا مجاز ، فإذا زدت «من فلان» رجع تشبيها. ويجوز
أن يكون «من» للتبعيض ، فإنّ ما