«... و أكثر الواصلين منهم لم يبلغوا مرتبة الطبقات السابقة، لا لنقص في موادهم و قصورهم في استعدادهم، بل لفساد الزمان، و تغير الأحوال، و كثرة الهرج و الفتن و تظاهر البلايا و المحن، و رغبة الطباع عن العلم و حملته، و تنفر القلوب عن العلماء و المتعلمين، و قطع الأرزاق و الأقوات المرتبة من الاعصار السابقة لهذه الطائفة، و ابتلائهم بالضنك و ضيق المعيشة، و ضعف الأحوال بحد لا يمكنهم الالتفات الى مسألة من البديهيات.
و هذا الفتور لا يختصّ بالمتعاطين للعلوم الشرعية، بل يعمّ مطلق المنسوبين الى العلم، فانّ حكماء هذا العصر لا يبلغون مرتبة الحكماء السابقين، و الأطباء هذا العصر مرتبة الأطباء السابقين و لا المتعاطون لسائر العلوم، كالتنجيم، و الرمل، و غيرهما مراتب الأولين.
و قد كان الحال في القرن السابق على هذا القرن على العكس المطلق مما نحن فيه، فانهم كانوا في نعمة وافية، و عيشة راضية، و النفوس متشوقة الى اكرام جانبهم، و رفع مراتبهم، و توقيرهم و اجلالهم، و ترفية أحوالهم، فبنوا لهم المدارس و عقدوا لهم المجالس، و هيّئوا لهم الكتب و الآلات، و أخلوا قلوبهم عن كل شاغل، لتحصيل الكمالات، فاستقوا من كل بحر و نهر، و حلبوا أشطر الدهر، و هوت اليهم أفئدة العظماء و الأشراف، و تسابقت اليهم الخيرات من الأطراف، و أتتهم الكرامات من الأرضين القاسية، و دانت لهم النفوس العاصية، و لانت اليهم القلوب القاسية، و تواردت عليهم الأيادي، و تليت آيات مجدهم في النوادي، و شاع صيتهم في البلدان و القرى و البوادي، و بسط لهم مهاد النعيم قرارا، و أرسل السماء عليهم مدرارا، و تسهّلت لهم الأسباب، و تذللت لهم الرقاب الصعاب، و وفاهم الملوك حقوقهم من التعظيم و التكريم، و أسهموهم من حظوظهم بالحظّ العظيم، و وسّعوا لهم الأزراق، و جلبوا لهم الأدوات من الآفاق، و اعتنوا بترويجهم و نشر آثارهم، و اهتمّوا بتنزيههم و تعلية منارهم.
و سمعت والدي عن جدّي (رحمة اللّه عليهما): أنه لمّا تأهب المولى