ومع ذلك فنحن لا نعتبرها مستحيلة ، ولا نسلب عنها إمكان الوجود كما نسلبه عن الأشياء المستحيلة ، فكم يبدو الفرق جلياً بين اصطدام القمر بالأرض أو وجود بشر في المريخ أو وجود إنسان يتمكن من الطيران لمرونة خاصّة في عضلاته من ناحية ، وبين وجود مثلث له أربعة أضلاع ، ووجود جزء أكبر من الكلّ ، ووجود القمر حال انعدامه من ناحية أخرى . فان هذه القضايا جميعاً لم تتحقق ولم تقم عليها تجربة . فلو كانت التجربة هي المصدر الرئيسي الوحيد للمعارف لما صحّ لنا أن نفرِّق بين الطائفتين لأن كلمة التجربة فيهما معاً على حدّ سواء ، وبالرغم من ذلك فنحن جميعاً نجد الفرق الواضح بين الطائفتين ، فالطائفة الأولى لم تقع ولكنّها جائزة ذاتياً ، وأمّا الطائفة الثانية فهي ليست معدومة فحسب بل لا يمكن أن توجد مطلقاً ، فالمثلث لا يمكن أن يكون له أضلاع أربعة سواء اصطدم القمر بالأرض أم لا . وهذا الحكم بالاستحالة لا يمكن تفسيره إلاّ على ضوء المذهب العقلي بأن يكون من المعارف العقلية المستقلّة عن التجربة .
وعلى هذا الضوء يكون التجريبيون بين سبيلين لا ثالث لهما : فإمّا أن يعترفوا باستحالة أشياء معيّنة كالأشياء التي عرضناها في الطائفة الثانية ، وإمّا أن ينكروا مفهوم الاستحالة من الأشياء جميعاً .
فإن آمنوا باستحالة أشياء ـ كالتي ألمحنا إليها ـ كان هذا الإيمان مستنداً إلى معرفة عقلية مستقلّة لا إلى التجربة ؛ لأنّ عدم ظهور شيء في التجربة لا يعني استحالته .
وإن أنكروا مفهوم الاستحالة ولم يقروا باستحالة شيء مهما كان غريباً لدى العقل ، فلا يبقى على أساس هذا الإنكار فرق بين الطائفتين اللتين عرضناهما وإدراكنا ضرورة التفرقة بينهما ، وإذا سقط مفهوم الاستحالة لم يكن التناقض مستحيلاً ـ أي وجود الشيء وعدمه ، وصدق القضية وكذبها في لحظة واحدة ـ