لا تدرك بالحسّ ، فالوردة التي نراها على الشجرة أو نلمسها بيدنا إنّما نحسّ برائحتها ولونها ونعومتها ، وحتّى إذا تذوقناها فإنّنا نحسّ بطعمها ، ولا نحسّ في جميع تلك الأحوال بالجوهر الذي تلتقي جميع هذه الظواهر عنده ، وإنّما ندرك هذا الجوهر ببرهان عقلي يرتكز على المعارف العقلية الأوّلية ـ كما سنشير إليه في البحوث المقبلة ـ ولأجل ذلك أنكر عدّة من الفلاسفة الحسّيين التجريبيين وجود المادّة [1] . فالسند الوحيد لإثبات المادّة هو معطيات العقل الأوّلية ، ولولاها لما كان في طاقة الحسّ أن يثبت لنا وجود المادّة وراء الرائحة الذكية واللون الأحمر والطعم الخاصّ للوردة .
وهكذا يتّضح لنا أن الحقائق الميتافيزيقية ليست هي وحدها التي يحتاج إثباتها إلى اتخاذ الطريقة العقلية في التفكير ، بل المادّة نفسها كذلك أيضاً .
وهذا الاعتراض إنّما نسجله بطبيعة الحال على من يؤمن بوجود جوهر مادّي في الطبيعة على أسس المذهب التجريبي ، وأمّا من يفسِّر الطبيعة بمجرد ظواهر تحدث وتتغير دون أن يعترف لها بموضوع تلتقي عنده . . فلا صلة له بهذا الاعتراض .
الثالث : أنّ الفكر لو كان محبوساً في حدود التجربة ولم يكن يملك معارف مستقلّة عنها لما أُتيح له أن يحكم باستحالة شيء من الأشياء مطلقاً ؛ لأن الاستحالة ـ بمعنى عدم إمكان وجود الشيء ـ ليس مما يدخل في نطاق التجربة ولا يمكن للتجربة أن تكشف عنه ، وقصارى ما يتاح للتجربة أن تدلل عليه هو عدم وجود أشياء معيّنة ، ولكن عدم وجود شيء لا يعني استحالته ، فهناك عدّة أشياء لم تكشف التجربة عن وجودها ، بل دلت على عدمها في نطاقها الخاصّ ،