وهذا السؤال يعتبر من أهمّ الأسئلة الرئيسية في التفكير البشري ، العلمي والفلسفي . ويقصد بالمادّة العلمية أعمق ما تكشفه التجربة من موادّ للعالم ، فهي الأصل الأوّل في التحليلات العلمية . ويقصد بالمادّة الفلسفية أعمق مادّة للعالم ، سواءٌ أكان من الممكن ظهورها في المجال التجريبي أم لا .
وقد مرّ بنا التحدّث عن المادّة العلمية ، وعرفنا أنّ أعمق مادّة توصّل إليها العلم هي الذرّة بأجزائها من النوى والكهارب ، التي هي تكاثف خاصّ للطاقة . ففي العرف العلمي مادّة الكرسي هي الخشب ، ومادّة الخشب هي العناصر البسيطة التي يأتلف منها ، وهي : الأوكسجين ، والكربون ، والهيدروجين . ومادّة هذه العناصر هي الذرّات ، ومادّة الذرّة هي أجزاؤها الخاصّة من البروتونات والإلكترونات وغيرهما . وهذه المجموعة الذرّية ، أو الشحنات الكهربائية المتكاثفة ، هي المادّة العلمية العميقة التي أثبتها العلم بالوسائل التجريبية .
وهنا يجيء دور المادّة الفلسفية ؛ لنعرف ما إذا كانت الذرّة في الحقيقة هي أعمق وأبسط مادّة للعالم ، أو إنّها بدورها مركّبة ـ أيضاً ـ من مادّة وصورة ، فالكرسي كما عرفنا مركّب من مادّة وهي الخشب ، وصورة هي هيئته الخاصّة . والماء مركّب من مادّة وهي ذرّات الأوكسجين والهيدروجين ، وصورة وهي خاصية السيلان ، التي تحصل عند التركيب الكيماوي بين الغازين . فهل الذرّات الدقيقة هي المادّة العلمية للعالم كذلك أيضاً ؟
والرأي الفلسفي السائد هو : أنّ المادّة الفلسفية أعمق من المادّة العلمية ، بمعنى : أنّ المادّة الأُولى في التجارب العلمية ليست هي المادّة الأساسية في النظر الفلسفي ، بل هي مركّبة من مادّة ـ أبسط منها ـ وصورة ، وتلك المادّة الأبسط لا يمكن إثباتها بالتجربة ، وإنّما يبرهن على وجودها بطريقة فلسفية .