إن الشارع إذا أمر بشيء فلا يكون حسنا إلا إذا مدح مع ذلك الفاعل عليه، و إذا نهى عن شيء فلا يكون قبيحا إلا إذا ذم الفاعل عليه. و من أين تعرف أنه يجب أن يمدح الشارع فاعل المأمور به و يذم فاعل المنهي عنه، إلا إذا كان ذلك واجبا عقلا (1)؟ فتوقف حسن المأمور به و قبح المنهي عنه على حكم العقل و هو المطلوب.
ثم لو ثبت أن الشارع مدح فاعل المأمور به و ذم فاعل المنهي عنه، و المفروض: أن مدح الشارع ثوابه و ذمّه عقابه، فمن أين نعرف أنه صادق في مدحه و ذمه إلا إذا ثبت أن الكذب قبيح عقلا يستحيل عليه؟ فيتوقف ثبوت الحسن و القبح شرعا على ثبوتهما عقلا، فلو لم يكن لهما ثبوت عقلا فلا ثبوت لهما شرعا (2).
و قد أجاب بعض الأشاعرة عن هذا التصوير: بأنه يكفي في كون الشيء حسنا أن يتعلق به الأمر، و في كونه قبيحا أن يتعلق به النهي، و الأمر و النهي- حسب الفرض- ثابتان وجدانا. و لا حاجة إلى فرض ثبوت مدح و ذم من الشارع.
و هذا الكلام- في الحقيقة- يرجع إلى أصل النزاع في معنى الحسن و القبح، فيكون الدليل و جوابه صرف دعوى و مصادرة على المطلوب، لأن المستدل يرجع قوله إلى أنه يجب المدح و الذم عقلا لأنهما واجبان في اتصاف الشيء بالحسن و القبح، و المجيب يرجع قوله إلى إنهما لا يجبان عقلا لأنهما غير واجبين في الحسن و القبح.
و الأحسن تصوير الدليل على وجه آخر، فنقول:
إنه من المسلم عند الطرفين: وجوب طاعة الأوامر و النواهي الشرعية و كذلك وجوب المعرفة. و هذا الوجوب عند الأشاعرة وجوب شرعي حسب دعواهم، فنقول لهم: من أين يثبت هذا الوجوب؟ لا بد أن يثبت بأمر من الشارع. فننقل الكلام إلى هذا الأمر، فنقول لهم: من أين تجب طاعة هذا الأمر، فإن كان هذا الوجوب عقليا فهو المطلوب، و إن كان شرعيا أيضا فلا بد له من أمر و لا بد له من طاعة فننقل الكلام إليه ... و هكذا نمضي إلى غير النهاية. و لا نقف حتى ننتهي إلى طاعة
(1) أي: أن العقل هو الذي يحكم بوجوب المدح و الذم من قبل الشارع.
(2) يترقى المصنّف قائلا: حتى لو أن الشارع مدح فاعل المأمور به، و ذم فاعل المنهي عنه، فمن أين نعرف أنه صادق في مدحه أو ذمه؟ فيتوقف على حكم العقل، و هو استحالة الكذب على الله، لأنّه لا يمكن أن يمدح شيئا يعاقب على فعله.