ظلَّت الحال على هذا المنوال بعض الوقت . وبعد فتح مَكَّة قال يوماً لعمِّه : ظللت أنتظرك طويلاً أنْ تعود إلى نفسك فتُسلِم وأُسلم معك ، ولكنِّي أراك لا تُريد أنْ تترك عبادة الأصنام ، وما تزال تُصرُّ على دينك الباطل ، فاسمح لي أنْ أعتنق أنا الإسلام وألتحق بركب المسلمين . كان عَمُّه قد طرق سمعه مِن قِبل ميول ابن أخيه إلى الإسلام ؛ لذلك غضب عند سماع كلامه غضباً شديداً ، وقال : إنَّه لن يسمح له أبداً بذلك ، وأقسم أنَّه إذا خالفه واعتنق الإسلام فسوف يسترجع منه كلَّ ما كان قد وهبه له .
كان الرجل يظنُّ أنَّ ابن أخيه الشابَّ سوف يرجع عن رأيه في الإسلام إذا هدَّده بانتزاع كلِّ شيء منه ، وأنَّه سوف يطرد فكرة اعتناق الإسلام مِن رأسه ، ويبقى عاكفاً على عبادة الأصنام . ولكنَّ الشابَّ كان مسلماً حقيقيَّاً ، لا يُمكن أنْ تتزلزل عقيدته بالتهديد والوعيد ، ولا أنْ يرجع عمَّا عزم عليه ، فأعلن إسلامه بكلِّ جُرأة وصراحة ، ولم يعبأ بالتهديدات الماليَّة .
عند ذلك لم يجد العمُّ إزاء مقالة الشابِّ إلاّ أنْ يُنفِّذ تهديده ، فاسترجع منه كلَّ الأموال التي كان قد أعطاها له ، ونزع عنه حتَّى الثوب الذي كان يرتديه ، فانطلق الشابُّ عارياً إلى أُمِّه وقال لها : أحمل هوى الإسلام ، ولا أطلب منك سوى إكساء العُريان . فأعطته أُمُّه قطعة مِن قماش كتَّان عندها ، فشقَّها نِصفين كسا عُريِّه بهما واتَّخذ سبيله في الطريق إلى المدينة للتشرّف برؤية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
كان الفتى قد فُتِن بالحقيقة التي اكتشفها ، فامتلأ قلبه بالثورة والحماس ، والطهارة والخلوص ، والصدق والصفاء . كان يغذُّ السير ، كطائر أُطلق مِن سجنه وأصبح حُرَّاً يُحلِّق حيث يشاء ، يُريد أنْ يرى رسول الإسلام بأسرع ما يستطيع ؛ ليعُبَّ مِن عذب نمير تعاليمه الإلهيَّة المُحيية ؛ ليصنع نفسه كما يليق به ، ولينال السعادة الحقيقية والكمال الإنسانيِّ المنشود .
دخل المسجد بين الطلوعين عندما كان المسلمون قد اجتمعوا لأداء فريضة