ذلك فلا بد لأمثاله من اجتماع و من تشبه بالمدنيّين. فإذا كان هذا
ظاهرا فلا بد فى وجود الإنسان و بقائه من مشاركة، و لا تتم المشاركة إلّا بمعاملة،
كما لا بد فى ذلك من سائر الأسباب التى تكون له، و لا بد فى المعاملة من سنة و
عدل، و لا بد للسنة و العدل من سانّ و معدّل، و لا بد من أن يكون هذا بحيث يجوز أن
يخاطب الناس و يلزمهم السنة. و لا بد من أن يكون هذا إنسانا، و لا يجوز ان يترك
الناس و آراءهم فى ذلك فيختلفون و يرى كل منهم ماله عدلا، و ما عليه ظلما؛ فالحاجة
إلى هذا الإنسان فى أن يبقى نوع الإنسان و يتحصل وجوده أشد من الحاجة إلى إنبات
الشعر على الأشفار و على الحاجبين، و تقعير الإخمص من القدمين، و أشياء أخرى من
المنافع التى لا ضرورة فيها فى البقاء، بل أكثر ما لها أنها تنفع فى البقاء، و
وجود الإنسان الصالح لان يسنّ و يعدّل ممكن كما سلف منا ذكره.
فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضى تلك المنافع و لا تقتضى هذه
التى هى أسّها، و لا أن يكون المبدأ الأول و الملائكة بعده يعلم ذلك و لا يعلم
هذا، و لا أن يكون ما يعلمه فى نظام الخير الممكن وجوده الضرورى حصوله لتمهيد نظام
الخير لا يوجد، بل كيف يجوز أن لا يوجد و ما هو متعلق بوجوده مبنى [1] على وجوده موجود؟ فواجب إذن أن يوجد
نبى، و واجب أن يكون إنسانا، و واجب أن تكون له خصوصية ليست لسائر الناس حتى
يستشعر الناس فيه أمرا لا يوجد لهم، فيتميز به منهم، فتكون له المعجزات التى
أخبرنا بها، و هذا الإنسان إذا وجد يجب أن يسنّ للناس فى أمورهم سننا بإذن اللّه
- المثناة من تحت، كما يصحّ بالجيم و الباء الموحدّة.
[1] - هكذا في جميع النسخ المخطوطة عندنا، و هو خبر بعد خبر، و في
النجاة: «و مبنى» بزيادة الواو.