يجعل لي منهم فرجا عاجلا، فو اللَّه لو لا طمعي عند لقائي عدوّي في
الشّهادة و توطيني نفسي على المنيّة لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا و لا
ألتقي بهم أبدا».
قال ابن أبى الحديد في شرح الكتاب ما نصه (ج 4؛ ص 54- 55):
«انظر الى الفصاحة كيف تعطي هذا الرّجل قيادها و تملّكه زمامها، و اعجب
لهذه الألفاظ المنصوبة يتلو بعضها بعضا كيف تواتيه و تطاوعه سلسة سهلة تتدفّق من
غير تعسّف و لا تكلّف حتّى انتهى إلى آخر الفصل فقال: يوما واحدا، و لا ألتقى بهم
أبدا.
و أنت و غيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة جاءت القرائن و
الفواصل تارة مرفوعة، و تارة مجرورة، و تارة منصوبة، فان أرادوا قسرها باعراب واحد
ظهر منها في التّكلّف أثر بيّن و علامة واضحة، و هذا الصّنف من البيان أحد أنواع
الإعجاز في القرآن؛ ذكره عبد القاهر قال: انظر إلى سورة النّساء و بعدها سورة
المائدة؛ الاولى منصوبة الفواصل، و الثّانية ليس فيها منصوب أصلا، و لو مزجت إحدى
السّورتين بالأخرى لم تمتزجا و ظهر أثر التّركيب و التّأليف بينهما، ثمّ انّ فواصل
كلّ واحدة منهما تنساق سياقة بمقتضى البيان الطّبيعيّ لا الصّناعة التّكلّفيّة.
ثمّ انظر إلى الصّفات و الموصوفات في هذا الفصل كيف قال: «ولدا ناصحا، و عاملا كادحا، و
سيفا قاطعا، و ركنا دافعا» لو قال: ولدا كادحا و عاملا ناصحا و كذلك ما بعده لما
كان صوابا و لا في الموقع واقعا فسبحان اللَّه من منح هذا الرّجل هذه المزايا
النّفيسة و الخصائص الشّريفة؟! أن يكون غلام من أبناء عرب مكّة ينشأ بين أهله لم
يخالط الحكماء و خرج أعرف بالحكمة و دقائق العلوم الإلهيّة من أفلاطون و أرسطو، و
لم يعاشر أرباب الحكم الخلقيّة و الآداب النّفسانيّة لأنّ قريشا لم يكن أحد منهم
مشهورا بمثل ذلك و خرج أعرف بهذا الباب من سقراط، و لم يربّ بين الشّجعان لأنّ أهل
مكّة كانوا ذوي تجارة و لم يكونوا ذوي حرب و خرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض،
قيل لخلف الأحمر: أيّما أشجع؟ عنبسة و بسطام أم عليّ بن- أبي طالب؟- فقال: إنّما
يذكر عنبسة و بسطام مع البشر و النّاس؛ لا مع من يرتفع عن