لم يزل القرآن الكريم بحسب حكمة الوحي و التشريع و المصالح و المقتضيات
المتجددة آنا فآنا يتدرج في نزوله نجوما [1] الآية و الآيتان و الأكثر و السورة. و كلما نزل شيء هفت اليه قلوب
المسلمين و انشرحت له صدورهم و هبوا الى حفظه بأحسن الرغبة و الشوق و أكمل الإقبال
و أشد الارتياح. فتلقونه بالابتهاج و تلقوه بالاغتنام من تلاوة الرسول العظيم
الصادع بأمر اللّه و المسارع إلى التبليغ و الدعوة إلى اللّه و قرآنه. و تناوله
حفظهم بما امتازت به العرب و عرفوا به من قوة الحافظة الفطرية و أثبتوه في قلوبهم
كالنقش في الحجر. و كان شعار الإسلام و سمة المسلم حينئذ هو التجمل و التكمل بحفظ
ما ينزل من القرآن الكريم. لكي يتبصر بحججه و يتنور بمعارفه و شرائعه و أخلاقه
الفاضلة و تاريخه المجيد و حكمته الباهرة و أدبه العربي الفائق المعجز. فاتخذ
المسلمون تلاوته لهم حجة الدعوة. و معجز البلاغة. و لسان العبادة للّه. و لهجة
ذكره. و ترجمان مناجاته. و أنيس الخلوة. و ترويح النفس. و درسا للكمال. و تمرينا
في التهذيب. و سلما للترقي. و تدربا في التمدّن. و آية الموعظة. و شعار الإسلام. و
وسام الإيمان و التقدّم في الفضيلة. و استمرّ المسلمون على ذلك حتى صاروا في زمان
الرّسول يعدون بالألوف و عشراتها و مئاتها. و كلهم من حملة القرآن و حفاظه [2] و إن تفاوتوا في ذلك بحسب
[1] و لا بد من أن تكون كتب الوحي و
الدعوة و التشريع جارية في كمالها على منهاج هذه الحكمة.
و مما يشير إلى ذلك ان التوراة الرائجة تذكر ان نزول التوراة على
موسى عليه السلام كان من زمان تكليمه من الشجرة متدرجا بحسب الأزمان و الحوادث و
التاريخ و الحكم في التشريع إلى حين وفاته بعد التيه عند عبر الأردن و متراخيا في
اكثر من أربعين سنة. فانظر في شرح هذا المجمل إلى المقدمة الثانية من الجزء الأول
من كتاب الهدى صحيفة 9 إلى 12.
[2] اخرج ابن سعد و ابن عساكر عن محمد بن
كعب القرضي قال جمع القرآن اي حفظا في زمان النبي (ص) خمسة من الأنصار معاذ بن جبل
و عبادة بن الصمت و أبي بن كعب و ابو أيوب الانصاري و ابو الدرداء.
و اخرج ابن سعد و يعقوب بن سفيان و الطبراني و ابن عساكر عن الشعبي
قال جمع القرآن على عهد رسول اللّه (ص) ستة من الأنصار أبي بن كعب و زيد بن ثابت و
معاذ بن جبل و ابو الدرداء و سعد بن عبيد و ابو زيد و كان مجمع ابن جارية قد أخذه
كله إلا سورتين أو ثلاثة. و اخرج ابن عساكر عن محمد بن كعب القرضي قال كان ممن ختم
القرآن و رسول اللّه حي عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب و عبد اللّه بن مسعود. و
اخرج عن انس قرأ القرآن على عهد رسول اللّه (ص) معاذ و أبي و سعد و ابو زيد. و
اخرج الحاكم في الصحيح على شرط البخاري و مسلم عن زيد بن ثابت قال كنا عند رسول
اللّه (ص) نؤلف القرآن من الرقاع. و في رواية حول رسول اللّه نؤلف القرآن «فانظر إلى كنز العمال و
منتخبه اقلا» و لم اذكر هذه الروايات احتجاجا بها للحقيقة المعلومة و لكن لتجبه
بالمعارضة بعض الروايات الشاذة الواردة في خلاف ما ذكرناه من حفظ المسلمين في عصر
النبي و بعده للقرآن الكريم.