عَاقِلاً،حَلِيماً،نَظِيفاً،حَكِيماً،وَ كَانَ أَبُوهُ رَجُلاً مُثْرِياً كَثِيرَ الْمَالِ،يَمْلِكُ الْمَاشِيَةَ مِنَ الْإِبِلِ،وَ الْبَقَرِ،وَ الْغَنَمِ،وَ الْحَمِيرِ، وَ الْبِغَالِ،وَ الْخَيْلِ،وَ لَمْ يَكُنْ فِي أَرْضِ الشَّامِ مَنْ كَانَ فِي غِنَائِهِ،فَلَمَّا مَاتَ وَرِثَ ذَلِكَ أَيُّوبُ،وَ كَانَ أَيُّوبُ يَوْمَئِذٍ عُمُرُهُ ثَلاَثِينَ سَنَةً،فَأَحَبَّ أَنْ يَتَزَوَّجَ،فَوُصِفَتْ لَهُ رَحْمَةُ بِنْتُ إِفْرَائِيمَ [1] بْنِ يُوسُفَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)،وَ كَانَتْ رَحْمَةُ عِنْدَ أَبِيهَا بِأَرْضِ مِصْرَ،وَ كَانَ أَبُوهَا شَدِيدَ الْفَرَحِ بِهَا،وَ كَانَ يُحِبُّهَا حُبّاً عَظِيماً،لِأَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ جَدَّهَا يُوسُفَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) نَزَعَ قَمِيصاً كَانَ عَلَيْهِ فَأَلْبَسَهَا إِيَّاهُ،وَ قَالَ:يَا رَحْمَةُ،هَذَا حُسْنِي وَ جَمَالِي وَ بَهَائِي قَدْ وَهَبْتُهُ لَكِ.
وَ كَانَتْ رَحْمَةُ أَشْبَهَ الْخَلْقِ بِيُوسُفَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)،وَ كَانَتْ زَاهِدَةً عَابِدَهً،فَلَمَّا سَمِعَ بِهَا أَيُّوبُ رَغِبَ فِيهَا،فَخَرَجَ إِلَى بَلَدِهَا وَ مَعَهُ مَالٌ جَزِيلٌ وَ هَدَايَا،وَ سَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَبِيهَا،فَخَطَبَ مِنْهُ ابْنَتَهُ رَحْمَةَ،فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا لِزُهْدِهِ وَ مَالِهِ، وَ جَهَّزَهَا إِلَيْهِ،فَحَمَلَهَا أَيُّوبُ إِلَى بِلاَدِهِ،فَرَزَقَهُ اللَّهُ مِنْهَا اثْنَيْ عَشَرَ بَطْناً،فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرٌ وَ أُنْثَى.
ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ رَسُولاً،وَ هُمْ أَهْلُ حَوْرَانَ وَ الْبَثْنَةِ [2]،وَ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَ الرِّفْقَ مَا لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ،وَ لَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ،وَ لاَ يُكْذِبُهُ أَحَدٌ لِشَرَفِهِ وَ شَرَفِ أَبِيهِ،فَشَرَعَ لَهُمْ الشَّرَائِعَ،وَ بَنَى لَهُمْ الْمَسَاجِدَ،وَ كَانَتْ لَهُ مَوَائِدُ يَضَعُهَا لِلْفُقَرَاءِ وَ الْمَسَاكِينِ وَ الْأَضْيَافِ يُضِيفُهُمْ وَ يُكْرِمُهُمْ،وَ كَانَ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ،وَ لِلْأَرْمَلَةِ كَالزَّوْجِ الْعَطُوفِ،وَ لِلضَّعِيفِ كَالْأَبِ الْوَدُودِ،وَ كَانَ قَدْ أَمَرَ وُكَلاَءَهُ وَ أُمَنَاءَهُ أَنْ لاَ يَمْنَعُوا أَحَداً مِنْ زَرْعِهِ وَ أَثْمَارِهِ،وَ كَانَ الطَّيْرُ وَ الْوُحُوشُ وَ جَمِيعُ الْأَنْعَامِ تَرْعَى فِي كَسْبِهِ [3]،وَ بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَزْدَادُ لِأَيُّوبَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)صَبَاحاً وَ مَسَاءً،وَ كَانَتْ جَمِيعُ مَوَاشِيهِ تَحْمِلْ فِي كُلِّ سَنَةٍ تَوْأَمَيْنِ،وَ لَمْ يَكُنْ أَيُّوبُ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)يَفْرَحُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ،لَكِنَّهُ يَقُولُ:إِلَهِي وَ سَيِّدِي وَ مَوْلاَيَ وَ سَنَدِي،هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ،فَكَيْفَ بِالْآخِرَةِ وَ الْجَنَّةِ الَّتِي خَلَقْتَهَا لِأَهْلِ كَرَامَتِكَ؟ وَ كَانَ إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ مَنْ يَلُوذُ بِهِ فِي مَسْجِدِهِ،يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ،وَ يُسَبِّحُونَ بِتَسْبِيحِهِ،حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ أَمَرَ بِاتِّخَاذِ الطَّعَامِ لَهُمْ،وَ لِجَمِيعِ الضُّعَفَاءِ،وَ كَانَ يَذْهَبُ لَهُ فِي ذَلِكَ مَالٌ لاَ يُحْصَى،وَ كَانَ لَهُ مِنَ الْخَيْلِ أَلْفُ فَرَسٍ،وَ أَلْفُ رَمَكَةٍ،وَ أَلْفُ بَغْلٍ وَ بَغْلَةٍ،وَ ثَلاَثَةُ آلاَفِ بَعِيرٍ،وَ أَلْفٌ وَ خَمْسُ مِائَةِ نَاقَةٍ،وَ أَلْفُ ثَوْرٍ،وَ أَلْفُ بَقَرَةٍ،وَ عَشَرَةُ آلاَفِ شَاةٍ، وَ خَمْسُ مِائَةٍ فَدَّانٍ،وَ ثَلاَثُ مِائَةِ أَتَانٍ [4]،وَ خَلْفَ كُلَّ رَمَكَةٍ مِهْرَانَ أَوْ ثَلاَثَةٌ،وَ كُلَّ نَاقَةٍ فَصِيلٌ،وَ كَذَلِكَ جَمِيعُ مَوَاشِيهِ، وَ عَلَى كُلِّ خَمْسِينَ رَأْساً مِنَ هَذِهِ رَاعٍ مَمْلُوكٌ لِأَيُّوبَ،وَ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ أَهْلٌ وَ وَلَدٌ.
وَ كَانَ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ لاَ يَمُرُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ أَيُّوبَ إِلاَّ رَآهُ مَخْتُوماً بِخَاتَمِ الشُّكْرِ،مُطَهَّراً بِالزَّكَاةِ،فَحَسَدَهُ، وَ لَمْ يَقْدِرْ لَهُ عَلَى ضَرَرٍ،وَ كَانَ إِبْلِيسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ،وَ يُحْجَبُ مِنْ دُونِ الْعَرْشِ،وَ يَقِفُ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنْهَا شَاءَ،حَتَّى رُفِعَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)،فَحُجِبَ عَنْ أَرْبَعِ سَمَاوَاتٍ،وَ يَصْعَدُ إِلَى ثَلاَثَةٍ مِنْهَا، حَتَّى بُعِثَ النَّبِيُّ(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)،فَحُجِبَ إِبْلِيسُ عَنْ جَمِيعِهَا،وَ كَانَ يَسْتَرِقُ السَّمْعَ بَعْدَ ذَلِكَ،وَ مِنْهُ تَعَجَّبَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ،وَ ذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَ أَنّٰا لَمَسْنَا السَّمٰاءَ فَوَجَدْنٰاهٰا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً*
[1] في«ج،ي»،و«ط»نسخة بدل:افراثيم،و في المصدر:مزايم.
[2] البثنة أو البثنية:قرية بين دمشق و أذرعات كان أيوب(عليه السلام)منها.«معجم البلدان 1:338».
[3] في المصدر:أرضه.
[4] الأتان:الحمارة.«الصحاح-اتن-5:2067».