و
اللّه ما رأيت كالليلة قطّ نيرانا. فقال بديل بن ورقاء: هذه و اللّه نيران خزاعة
حمشتها [1] الحرب. فقال أبو سفيان:
خزاعة ألأم من
ذلك و أذلّ. فعرفت صوته فقلت: أبا حنظلة! فقال: أبا الفضل! قلت نعم؛ فقال: لبّيك،
فداؤك أبي و أمي! فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد دلف
[2] إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين. قال:
فما تأمرني؟
فقلت: تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول اللّه/ صلى اللّه عليه و سلم، فو اللّه
لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك.
فردفني فخرجت
به أركض بغلة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نحو رسول اللّه صلى اللّه عليه و
سلم. فكلما مررت بنار من نيران المسلمين فنظروا إليّ قالوا: عمّ رسول اللّه على
بغلة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم؛ حتى مررنا بنار عمر بن الخطاب- رضي اللّه
تعالى عنه- فقال: أبو سفيان! الحمد للّه الذي أمكن منك بغير عقد و لا عهد؛ ثم
اشتدّ نحو النبيّ صلى اللّه عليه و سلم، و ركضت البغلة و قد أردفت أبا سفيان- قال
العباس:- حتى اقتحمت على باب القبّة و سبقت عمر بما تسبق به الدّابة البطيئة الرجل
البطيء. فدخل عمر على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال: يا رسول اللّه، هذا
أبو سفيان قد أمكن اللّه منه بغير عهد و لا عقد، فدعني أضرب عنقه. قلت: يا رسول
اللّه، إني قد أجرته. ثم جلست إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أخذت برأسه و
قلت: و اللّه لا يناجيه اليوم/ أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلا يا عمر! فو
اللّه ما تصنع هذا إلّا لأنّه رجل من عبد مناف، و لو كان من بني عديّ بن كعب ما
قلت هذا! قال: مهلا يا عبّاس! فو اللّه لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام
الخطاب لو أسلم؛ و ذلك لأني أعلم أن إسلامك أحبّ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و
سلم من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «اذهب فقد
أمّنّاه حتى تغدو به عليّ الغداة» فرجع به إلى منزله. فلما أصبح غدا به على رسول
اللّه صلى اللّه عليه و سلم. فلما رآه قال: «ويحك يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن
تعلم أن لا إله إلا اللّه»! فقال: بأبي أنت و أمي! ما أوصلك و أحلمك و أكرمك! و اللّه
لقد ظننت أن لو كان مع اللّه غيره لقد أغنى عنّي شيئا. فقال: «ويحك تشهّد بشهادة
الحقّ قبل و اللّه [أن] [3] تضرب عنقك»./ قال: فتشهّد. فقال رسول اللّه صلى اللّه
عليه و سلم للعبّاس من حين تشهّد أبو سفيان:
«انصرف يا
عبّاس فاحتبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى يمرّ عليه جنود اللّه». فقلت: يا
رسول اللّه، إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر، فاجعل له شيئا يكون في قومه. فقال:
«نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن و من دخل المسجد فهو آمن و من أغلق عليه بابه
فهو آمن». فخرجت به حتى أجلسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي، فمرّت عليه القبائل،
فجعل يقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي و لسليم! ثم تمرّ به
قبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: مالي و لأسلم! و تمرّ به جهينة فيقول:
من هؤلاء؟ فأقول: جهينة، فيقول: ما لي و لجهينة! حتى مرّ رسول اللّه صلى اللّه
عليه و سلم في الخضراء، كتيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من المهاجرين و
الأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت: هذا
رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في المهاجرين و الأنصار؛ فقال: يا أبا الفضل، لقد
أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فقلت: ويحك! إنها النبوّة؛ قال: نعم إذا. فقلت الحق الآن
بقومك فحذّرهم. فخرج سريعا حتى أتى مكة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمد قد
جاءكم بما لا قبل لكم به.
قالوا: فمه!
قال: من دخل داري فهو آمن. فقالوا: ويحك ما تغني عنّا دارك! قال: و من دخل المسجد
فهو آمن و من أغلق عليه بابه فهو آمن.