كنّا
قوما تجارا، و كانت الحرب بيننا و بين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد حصرتنا
[1] حتى نهكت [2] أموالنا. فلما كانت الهدنة [هدنة الحديبية] [3] بيننا و بين رسول
اللّه صلى اللّه عليه و سلم، خرجت في نفر من قريش إلى الشأم، و كان وجه متجرنا منه
غزّة، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من الفرس [4]، فأخرجهم منها و انتزع
منهم صليبه الأعظم و كانوا قد استلبوه إيّاه. فلما بلغه ذلك منهم و بلغه أن صليبه
قد استنقذ منهم، و كانت حمص منزله، خرج [5] منها يمشي على قدميه شكرا للّه حين ردّ
عليه ما ردّ ليصلّي في بيت المقدس تبسط له البسط و تلقى عليها الريّاحين. فلما
انتهى إلى/ إيلياء فقضى فيها صلاته و كان معه بطارقته و أشراف الروم، أصبح ذات
غدوة مهموما يقلّب طرفه إلى السماء.
فقال له
بطارقته: و اللّه لكأنّك أصبحت الغداة مهموما. فقال: أجل! رأيت البارحة أن ملك
الختان ظاهر. فقالوا:
أيّها الملك،
ما نعلم أمّة تختتن إلا اليهود، و هم في سلطانك و تحت يدك، فابعث إلى كلّ من لك
عليه سلطان في بلادك فمره فليضرب أعناق من تحت يدك منهم من يهود و استرح من هذا
الهمّ. فو اللّه إنهم لفي ذلك من رأيهم يدبّرونه [6] إذ أتاه رسول صاحب بصرى [7]
برجل من العرب يقوده- و كانت الملوك تتهادى الأخبار بينهم- فقال:
أيها الملك، إن
هذا رجل من العرب من أهل الشّاء و الإبل يحدّث عن أمر حدث فاسأله. فلما انتهى به
إلى هرقل رسول صاحب بصرى، قال هرقل لمن جاء به: سله عن هذا الحديث الذي كان ببلده؛
فسأله، فقال: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبيّ، و قد اتّبعه ناس فصدّقوه و خالفه
آخرون، و قد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة، و تركتهم على ذلك. فلما أخبره الخبر
قال: جرّدوه فإذا هو مختون؛ فقال: هذا و اللّه النبيّ الذي رأيت لا ما تقولون،
أعطوه ثيابه و ينطلق. ثم دعا صاحب شرطته فقال له: اقلب الشأم ظهرا لبطن حتى تأتيني
برجل من قوم هذا الرجل.
فإنّا لبغزّة
إذ هجم علينا صاحب شرطته فقال: أنتم من قوم الحجاز؟ قلنا نعم. قال: انطلقوا إلى
الملك، فانطلقوا بنا. فلما انتهينا إليه قال: أنتم من رهط هذا الرجل الذي بالحجاز؟
قلنا نعم. قال: فأيّكم أمسّ به رحما؛ قال: قلت أنا- قال أبو سفيان: و أيم اللّه ما
رأيت رجلا أرى أنه أنكر من ذلك الأغلف [8] (يعني هرقل)- ثم قال: أدنه، فأقعدني بين
يديه و أقعد أصحابي خلفي، و قال: إني سأسأله، فإن كذب فردّوا عليه.
/- قال: فو
اللّه لقد علمت أن لو كذبت ما ردّوا عليّ، و لكنّي كنت امرأ سيّدا أتبرّم عن
الكذب؛ و عرفت أنّ أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوه عليّ ثم يحدّثوا به عني،
فلم أكذبه- قال: أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم يدّعي ما يدّعي. فجعلت
أزهّد له شأنه و أصغّر له أموره، و أقول له: أيها الملك، ما يهمّك من شأنه! إنّ
أمره دون ما بلغك؛ فجعل لا يلتفت إلى ذلك منّي. ثم قال: أنبئني فيما أسألك عنه من
شأنه. قال: قلت:
سل عمّا بدا
لك. قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: محض، هو أوسطنا [9] نسبا. قال: أخبرني هل/ كان أحد
في أهل
[1]
كذا في ح و «تجريد الأغاني». و في سائر الأصول: «حضرتنا» بالضاد المعجمة و هو
تصحيف.
[2] كذا في
«تجريد الأغاني». و في الأصول: «تهتكت». و هو تحريف.