قدم
ابن جامع قدمة له من مكة على الرشيد، و كان ابن جامع حسن السّمت كثير الصلاة قد
أخذ السجود جبهته، و كان يعتمّ بعمامة سوداء على قلنسوة طويلة، و يلبس لباس
الفقهاء، و يركب حمارا مرّيسيّا [1] في زيّ أهل الحجاز. فبينا هو واقف على باب
يحيى بن خالد يلتمس الإذن عليه، فوقف على ما كان يقف الناس عليه في القديم حتى
يأذن لهم أو يصرفهم، أقبل [2] أبو يوسف القاضي بأصحابه أهل القلانس؛ فلما هجم على
الباب نظر إلى رجل يقف إلى جانبه و يحادثه، فوقعت عينه على ابن جامع فرأى سمته و
حلاوة هيئته، فجاء فوقف إلى جانبه ثم قال له: أمتع اللّه بك، توسّمت/ فيك
الحجازيّة و القرشيّة؛ قال: أصبت. قال: فمن أيّ قريش أنت؟ قال: من بني سهم. قال:
فأيّ الحرمين منزلك؟ قال: مكة. قال: و من لقيت من فقهائهم؟ قال: سل عمن شئت.
ففاتحه الفقه و الحديث فوجد عنده ما أحبّ فأعجب به. و نظر الناس إليهما فقالوا:
هذا القاضي قد أقبل على المغنّي، و أبو يوسف لا يعلم أنه ابن جامع. فقال أصحابه:
لو أخبرناه عنه! ثم قالوا:/ لا، لعلّه لا يعود إلى مواقفته [3] بعد اليوم، فلم
نغمّه. فلما كان الإذن الثاني ليحيى غدا عليه الناس و غدا عليه أبو يوسف، فنظر
يطلب ابن جامع فرآه، فذهب فوقف إلى جانبه فحادثه طويلا كما فعل في المرّة الأولى.
فلما انصرف قال له بعض أصحابه: أيها القاضي، أ تعرف هذا الذي تواقف و تحادث؟ قال:
نعم، رجل من قريش من أهل مكة من الفقهاء. قالوا: هذا ابن جامع المغنيّ؛ قال: إنا
للّه!. قالوا: إن الناس قد شهروك بمواقفته و أنكروا ذلك من فعلك. فلما كان الإذن
الثالث جاء أبو يوسف و نظر إليه فتنكّبه، و عرف ابن جامع أنه قد أنذر به، فجاء
فوقف فسلّم عليه، فردّ السلام عليه أبو يوسف بغير ذلك الوجه الذي كان يلقاه به ثم
انحرف عنه. فدنا منه ابن جامع، و عرف الناس القصة، و كان ابن جامع جهيرا فرفع صوته
ثم قال: يا أبا يوسف، ما لك تنحرف عني؟ أيّ شيء أنكرت؟ قالوا لك: إني ابن جامع
المغنيّ فكرهت مواقفتي لك! أسألك عن مسألة ثم اصنع ما شئت؛ و مال الناس فأقبلوا
نحوهما يستمعون. فقال: يا أبا يوسف، لو أن أعرابيّا جلفا وقف بين يديك فأنشدك
بجفاء و غلظة من لسانه و قال:
يا دارمية بالعلياء فالسّند
أقوت و طال عليها سالف الأبد
/ أ كنت ترى بذلك بأسا؟ قال: لا، قد روي عن
النبيّ صلى اللّه عليه و سلم في الشعر قول، و روى في الحديث. قال ابن جامع: فإن
قلت أنا هكذا، ثم اندفع يتغنّى فيه حتى أتى عليه؛ ثم قال: يا أبا يوسف، رأيتني زدت
فيه أو نقصت منه؟ قال: عافاك اللّه، أعفنا من ذلك. قال: يا أبا يوسف، أنت صاحب
فتيا، ما زدته على أن حسّنته بألفاظي فحسن في السماع و وصل إلى القلب. ثم تنحّى
عنه ابن جامع.
سأل سفيان بن
عيينة عن السبب الذي أصاب به مالا فأجيب:
قال: و حدّثني
عبد اللّه بن شبيب قال حدّثني إبراهيم بن المنذر عن سفيان بن عيينة، و مرّ به ابن
جامع يسحب الخزّ، فقال لبعض أصحابه:
بلغني أنّ هذا
القرشيّ أصاب مالا من بعض الخلفاء، فبأيّ شيء أصابه؟ قالوا: بالغناء. قال: فمن
منكم يذكر بعض ذلك؟ فأنشد بعض أصحابه ما يغنّي فيه:
[1]
مريسي: نسبة إلى مريسة (كسكينة، كما في «القاموس» و شرحه مادة مرس و ضبطها صاحب
«معجم البلدان» بفتح الميم): قرية بمصر من ناحية الصعيد إليها تنسب الحمر المريسية
و هي من أجود الحمر و أمشاها.