فلما أرسل اللّه سيل العرم
على أهل مأرب، و هم الأزد، قام رائدهم فقال: من كان ذا جمل مفنّ و وطب مدنّ و قربة
و شنّ، فلينقلب عن بقرات النعم، فهذا اليوم يوم همّ [3] و ليلحق بالثّنى من شنّ-
قال و هو بالسراة- فكان الذين نزلوه أزد شنوءة، ثم قال لهم: و من كان ذا فاقة و
فقر، و صبر على أزمات الدهر فليلحق ببطن مرّ، فكان الذين سكنوه خزاعة، ثم قال لهم:
من كان منكم يريد الخمر و الخمير، و الأمر و التأمير، و الديباج و الحرير، فليلحق
ببصري و الحفير، و هي من أرض الشام، فكان الذين سكنوه غسّان ثم قال لهم: و من كان
منكم ذا همّ بعيد و جمل شديد، و مزاد جديد، فليلحق بقصر عمان الجديد، فكان الذين
نزلوه أزد عمان، ثم قال: و من كان يريد الرّاسخات في الوحل، المطمعات في المحل،
فليلحق بيثرب ذات النخل. فكان الذين نزلوها الأوس و الخزرج، فلما توجهوا إلى
المدينة و وردوها نزلوا/ في صرار [4] ثم تفرقوا، و كان منهم من لجأ إلى عفاء [5] من
أرض لا ساكن فيه، فنزلوا به، و منهم من لجأ إلى قرية من قراها، فكانوا مع أهلها،
فأقامت الأوس و الخزرج في منازلهم التي/ نزلوها بالمدينة في جهد و ضيق في المعاش،
ليسوا بأصحاب إبل و لا شاة؛ لأن المدينة ليست بلاد نعم، و ليسوا بأصحاب نخل و لا
زرع، و ليس للرجل منهم إلا الأعذاق [6] اليسيرة، و المزرعة يستخرجها من أرض موات،
و الأموال لليهود، فلبثت الأوس و الخزرج بذلك حينا.
أبو جبيلة يفتك باليهود
ثم إن مالك بن العجلان وفد
إلى أبي جبيلة الغسّاني و هو يومئذ ملك غسان، فسأله عن قومه و عن منزلهم فأخبره
بحالهم؛ و ضيق معاشهم، فقال له أبو جبيلة: و اللّه ما نزل قوم منا بلدا قط إلا
غلبوا أهله عليه، فما بالكم؟
ثم أمره بالمضي إلى قومه،
و قال له: أعلمهم أني سائر إليهم، فرجع مالك بن العجلان، فأخبرهم بأمر أبي جبيلة؛
ثم قال لليهود:
إن الملك يريد زيارتكم
فأعدّوا نزلا فأعدّوه، و أقبل أبو جبيلة سائرا من الشام في جمع كثيف، حتى قدم
المدينة، فنزل بذي حرض، ثم أرسل إلى الأوس و الخزرج، فذكر لهم الذي قدم له، و أجمع
أن يمكر باليهود حتى يقتل رءوسهم و أشرافهم، و خشي إن لم يمكر بهم أن يتحصّنوا في
آطامهم، فيمنعوا منه حتى يطول حصاره إياهم،
[1]
جما ثواكم: كثيرة إقامتكم، و في هد،
هج بدل المصراع الثاني: