أكرمه و أنزله في داره، فمكث معه ما شاء اللّه أن يمكث، ثم إن أوسا
قال له: يا ابن خال، أ تريد المقام عندي و في داري؟ فقال له أيّوب: نعم، فقد علمت
أني إن أتيت قومي و قد أصبت فيهم دما لم أسلم، و ما لي دار إلا دارك آخر الدهر؛
قال أوس: إني قد كبرت و أنا خائف أن أموت فلا يعرف ولدي لك من الحقّ مثل ما أعرف،
و أخشى أن يقع بينك و بينهم أمر يقطعون فيه الرّحم، فانظر أحبّ مكان في الحيرة
إليك فأعلمني به لأقطعكه أو أبتاعه لك؛ قال:
و كان لأيوب
صديق في الجانب الشرقيّ من الحيرة، و كان منزل أوس في الجانب الغربيّ، فقال له: قد
أحببت أن يكون المنزل الذي تسكننيه عند منزل عصام بن عبدة أحد بني الحارث بن كعب؛
فابتاع له موضع داره بثلاثمائة أوقية من ذهب و أنفق عليها مائتي أوقية ذهبا. و
أعطاه مائتين من الإبل برعائها و فرسا و قينة؛ فمكث في منزل أوس حتى هلك، ثم تحوّل
إلى داره التي في شرقيّ الحيرة فهلك بها. و قد كان أيوب اتصل قبل مهلكه بالملوك
الذين كانوا بالحيرة و عرفوا حقّه و حقّ ابنه زيد بن أيوب، و ثبت أيوب فلم يكن
منهم ملك يملك إلا و لولد أيوب منه جوائز و حملان [1].
مقتل زيد بن
أيوب
ثم إنّ زيد بن
أيوب نكح امرأة من آل قلّام فولدت له حمّادا، فخرج زيد بن أيوب/ يوما من الأيام
يريد الصيد في ناس من أهل الحيرة و هم منتدون [2] بحفير- المكان الذي يذكره عديّ
بن زيد في شعره- فانفرد في الصيد و تباعد من أصحابه، فلقيه رجل من بني امرئ القيس
الذين كان لهم الثأر قبل أبيه، فقال له- و قد عرف فيه شبه أيوب-: ممّن الرجل؟ قال:
من بني تميم، قال: من أيّهم؟ قال: مرئيّ [3]؛ قال له الأعرابيّ: و أين منزلك؟
قال: الحيرة؛
قال أ من بني أيوب أنت؟ قال: نعم، و من أين تعرف بني أيوب؟ و استوحش من الأعرابيّ
و ذكر الثأر الذي هرب أبوه منه؛ فقال له: سمعت بهم، و لم يعلمه أنه قد عرفه؛ فقال
له زيد بن أيوب: فمن أيّ العرب أنت؟
قال: أنا امرؤ
من طيء؛ فأمنه زيد و سكت عنه، ثم إن الأعرابيّ اغتفل [4] زيد بن أيوب فرماه بسهم
فوضعه بين كتفيه ففلق قلبه، فلم يرم [5] حافر دابته حتى مات؛ فلبث أصحاب زيد حتى
إذا كان الليل طلبوه و قد افتقدوه و ظنّوا أنه قد أمعن في طلب الصيد، فباتوا
يطلبونه حتى يئسوا منه، ثم غدوا في طلبه فاقتفوا أثره حتى وقفوا عليه و رأوا معه
أثر راكب يسايره فاتبعوا الأثر حتى وجدوه قتيلا، فعرفوا أن صاحب الراحلة قتله،
فاتبعوه و أغدّوا السير فأدركوه مساء الليلة الثانية، فصاحوا به و كان من أرمى
الناس فامتنع منهم بالنّبل حتى حال الليل بينهم و بينه و قد أصاب رجلا منهم في
مرجع [6] كتفيه بسهم فلما أجنّه الليل مات و أفلت الرامي، فرجعوا و قد قتل زيد بن
أيوب و رجلا [7] آخر معه من بني الحارث بن كعب.
[1]
الحملان بالضم: ما يحمل عليه من الدواب في الهبة خاصة.
[2] انتدى
القوم: اجتمعوا. و حفير: موضع بالحيرة ذكره البكري في «معجم ما استعجم» و أنشد
عليه قول عديّ بن زيد:
قد أرانا و أهلنا بحفير
نحسب الدهر و السنين شهورا
[3] نسبة إلى امرئ القيس، و يقال في النسبة
إليه: «امرئىّ» أيضا.
[4] كذا في
أغلب الأصول و لم نجد في معاجم اللغة التي بأيدينا اغتفل فلانا بمعنى تغفله أو
استغفله. و في م: «اعتقل».