فغنّيته إياه، فطرب طربا
شديدا و شرب عليه ثلاثة أرطال ولاء، و أمر لي بألف دينار و خلع عليّ جبّة وشي كانت
عليه مذهبة، و درّاعة مثلها و عمامة مثلها تكاد تعشي البصر من كثرة الذّهب، فلمّا
لبست ذلك و رآه عليّ ندم، و كان كثيرا ما يفعل ذلك، فقال لبعض الخدم: قل للطبّاخ
يأتينا بمصليّة [1] معقودة الساعة، فأتى بها، فقال لي: كل معي، و كنت أعرف النّاس
بمذهبه و بكراهته لذلك، فامتنعت. فحلف أن آكل معه، فحين أدخلت يدي في الغضارة [2]
رفع يده، ثم قال: أفّ نغّصتها عليّ و اللّه و قذّرتها عندي بإدخالك يدك فيها، ثمّ
رفس القصعة رفسة فإذا هي في حجري، و ودكها [3] يسيل على الخلعة حتى نفذ إلى جلدي،
فقمت مبادرا فنزعتها، و بعثت بها إلى منزلي و غيّرت ثيابي و عدت و أنا مغموم منها
و هو يضحك، فلمّا رجعت إلى منزلي جمعت كلّ صانع حاذق فجهدوا في إخراج ذلك الأثر
منها فلم يخرج، و لم أنتفع بها حتى أحرقتها فأخذت ذهبها، و ضرب الدّهر بعد ذلك
ضرباته.
يؤاكل المأمون و يغنيه
فيعبس في وجهه ثم يدعوه ثانية و يكافئه
ثم دعاني المأمون يوما،
فدخلت إليه و هو جالس، و بين يديه مائدة عليها رغيفان و دجاجتان، فقال لي: تعال
فكل، فامتنعت، فقال لي: تعال ويلك فساعدني. فجلست فأكلت معه حتى استوفى، و وضع
النبيذ و دعا علّوية فجلس، و قال لي: يا مخارق، أ تغنّي:
أقول التماس العذر
لمّا ظلمتني
و حمّلتني ذنبا و ما كنت مذنبا
فقلت: نعم يا سيّدي، قال:
غنّه، فغنّيته فعبس في وجهي ثم قال: قبّحك اللّه أ هكذا يغنّى هذا! ثم أقبل على علّوية
فقال: أ تغنّيه؟ قال: نعم يا سيّدي، قال: غنّه، فغنّاه، فو اللّه ما قاربني فيه،
فقال: أحسنت و اللّه، و شرب رطلا، و أمر له بعشرة آلاف درهم، و استعاده ثلاثا، و
شرب عليه ثلاثة أرطال يعطيه مع كلّ عشرة آلاف درهم، ثم خذف بإصبعه [4] و قال: برق
يمان، و كان إذا أراد قطع الشرب فعل ذلك، و قمنا فعلمت من أين أتيت.
فلمّا كان بعد أيام دعاني
فدخلت إليه و هو جالس في ذلك الموضع بعينه يأكل هناك، فقال لي: تعال ويلك فساعدني،
فقلت: الطلاق لي لازم إن فعلت، فضحك ثم قال: ويلك، أ تراني بخيلا على الطّعام! لا
و اللّه، و لكنني أردت أن أؤدّبك، إنّ السادة لا ينبغي لعبيدها أن تؤاكلها، أ
فهمت؟ فقلت: نعم، قال: فتعال الآن فكل على الأمان فقلت: أكون إذا أوّل من أضاع
تأديبك إياه و استحقّ العقوبة من قريب، فضحك حتى استغرب [5]، ثمّ أمر لي بألف
دينار، و مضيت إلى حجرتي المرسومة لي [6] للخدمة، و أتيت هناك بطعام فأكلت، و وضع
النّبيذ و دعاني و بعلّوية، فلمّا جلسنا قال له: يا عليّ، أ تغنّي: