قد مضت أخبار أبيه، و نسبه
و ولاؤه في متقدّم الكتاب، و كان الزّبير أحد المحسنين المتقنين الرّواة الضّرّاب،
المتقدّمين في الصّنعة، و قدم على الرشيد من الحجاز، و كان المغنون في أيّامه
حزبين: أحدهما في حزب إبراهيم الموصليّ و ابنه إسحاق، و الآخر في حزب ابن جامع و
ابن المهديّ، و كان إبراهيم بن المهديّ أوكد أسباب هذا التّحزّب و التّعصّب لما
كان بينه و بين إسحاق [1] و كان الزبير بن دحمان في حزب إسحاق، و أخوه عبيد اللّه
في حزب إبراهيم بن المهديّ [1].
يغني الرشيد من غناء
المتقدمين فيفضل أخاه
فأخبرني محمد بن مزيد،
قال: حدّثني حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:
لما قدم الزّبير بن دحمان
على الرّشيد من الحجاز، قدم رجل ما شئت من رجل؛ عقلا و نبلا و دينا و أدبا و سكونا
و وقارا، و كان أبوه قبله كذلك، و قدم معه أخوه عبيد اللّه [2]، فما وصلا إلى
الرشيد، و جلسا معنا، تخيّلت في الزّبير الفضل فقلت لأبي: يا أبت، أخلق بالزّبير
أن يكون أفضل من أخيه، فقال: هذا لا يجيء بالظّنّ و التّخيّل [3]، و الجواد إنّما
يمتحن في الميدان، فقلت له: فالجواد عينه فراره [4]، فضحك، و قال: ننظر في فراستك،
فلما غنّيا بان فضل الزّبير و تقدّمه، فاصطفاه أبي و اصطفيته لأنفسنا، و قرّظناه
[5] و وصفناه، و صار في حيّزنا.
الرشيد يستعيده صوتا من
صنعته ثلاث مرات
و غنّى الرّشيد غناء/
كثيرا من غناء المتقدّمين فأجاد و أحسن، و سأله الرّشيد أن يغنّيه شيئا من صنعته،
فالتوى بعض الالتواء و قال: قد سمع أمير المؤمنين غناء الحذّاق من المتقدمين و
غناء من بحضرته من خدمه، و من وفد عليه من الحجازيّين، و ما عسى أن يأتي من صنعتي؟
فأقسم عليه أن يغنّيه شيئا من صنعته، و جدّ به في ذلك، فكان أول صوت غنّاه منها:
[4]
المثل «إن الجواد عينه فراره» في «مجمع الأمثال بترتيب الكرماني»- 37 ط. طهران، و جاء فيه:
الفرار- بالكسر- النظر إلى أسنان الدابة ليعرف قدر سنه، و هو مصدر، و منه قول
الحجاج: فررت عن ذكاء، و يروى فراره- بالضم- و هو اسم منه؛ يضرب لمن يدل ظاهره على
باطنه فيغني عن الاختبار حتى لقد يقال: إن الخبيث عينه فراره.