نسبه
إلى شارية و ريّق، لئلا يقع عليه في طعن أو تقريع، فقلّت صنعته في أيدي الناس مع
كثرتها لذلك. و كان إذا قيل له فيها شيء قال: إنما أصنع تطرّبا لا تكسّبا، و
أغنّى لنفسي لا للناس فأعمل ما أشتهي.
كان ينازع
إسحاق و يجادله و جرت بينهما مناظرات في الغناء:
و كان حسن صوته
يستر عوار ذلك كلّه. و كان الناس يقولون لم ير في جاهليّة و لا إسلام أخ و أخت
أحسن غناء من إبراهيم بن المهديّ و أخته عليّة. و كان يماظّ [1] إسحاق و يجادله،
فلا يقوم له و لا يفي به، و لا يزال إسحاق يغلبه و يغصّه بريقه و يغصّ منه بما
يظهر عليه من السّقطات و يبيّنه من خطئه في وقته [2] و عجزه عن معرفة الخطأ الغامض
إذا مرّ به؛ و قصوره عن أداء الغناء القديم فيفضحه بذلك. و قد ذكرت قطعة من هذه
الأخبار في أخبار إسحاق و أنا أذكرها هنا منها ما لم أذكر هناك.
و ممّا خالف
إبراهيم بن المهديّ و من قال بقوله على إسحاق فيه: الثّقيلان و خفيفهما؛ فإنّه
سمّى الثقيل الأوّل و خفيفه الثقيل الثاني و خفيفه، و سمّى الثقيل الثاني و خفيفه
الثقيل الأوّل و خفيفه؛ و جرت بينهما في ذلك مناظرات و مجادلات و مراسلة و مكاتبة
و مشافهة، و حضرهما النّاس، فلم يكن فيهم من يفي بفصل/ ما بينهما و الحكم لأحدهما
على صاحبه. و وضع لذلك [3] مكاييل لتعرف بها أقدار الطرائق، و أمسك كلّ واحد منهما
إلى آخر أقداره، فلم يصحّ شيء يعمل عليه، إلّا أن قول إبراهيم بن المهديّ اضمحلّ
و بطل و ترك، و عمل الناس على مذهب إسحاق؛ لأنّه كان أعلم الرجلين و أشهرهما. و
أوضح إسحاق أيضا لذلك وجوها فقال: إنّ الثقيل الأوّل يجيء منه قدران، الثّقيل
الأوّل التّامّ، و القدر الأوسط من الثقيل الأوّل، و جميعا طريقته واحدة لاتّساعه
و التمكّن منه، و الثقيل الثاني لا يجيء هذا فيه و لا يقاربه. و الثّقيل الأوّل
يمكن الإدراج في ضربه لثقله، و الثّقيل الثاني لا يندرج لنقصه عن ذلك. و لهما في
هذا كلام كثير و مخاطبات قد ذكرتها في أخبارهما، و شرحت العلل مبسوطة في كتاب
ألّفته في النّغم شرحا ليس هذا موضعه و لا يصلح فيه. و أمّا التّجزئة و القسمة
فإنّهما أفنيا أعمارهما في تنازعهما فيهما، حتى كان يمضي لهما الزمان الطويل لا
تنقطع مناظرتهما و مكاتبتهما في قسمة و تجزئة صوت واحد فيه، و حتى كانا يخرجان إلى
كلّ قبيح، و حتى إنهما ماتا جميعا و بينهما منازعة في هذا الصوت/ و قسمته:
حيّيا أمّ يعمرا
قبل شحط من النّوى
لم يفصل بينهما
فيها إلى أن افترقا. و لو ذهبت إلى ذكر ذلك و شرح سائر أخبار إبراهيم بن المهديّ و
قصصه لمّا ولي الخلافة و غير ذلك من وصفه بفصاحة اللسان، و حسن البيان، و جودة
الشعر، و رواية العلم، و المعرفة بالجدل، و جزالة الرأي، و التصرّف في الفقه و
اللّغة، و سائر الآداب الشريفة، و العلوم النفيسة، و الأدوات الرفيعة، لأطلت. و
إنّما الغرض في هذا الكتاب الأغاني أو ما جرى مجراها، لا سيما لمن كثرت الروايات و
الحكايات عنه؛ فلذلك اقتصرت على ما ذكرته من أخباره دون ما يستحقّه من التفضيل و
التّبجيل و الثناء الجميل.