و أمّا بيان وجوب الحركة في المحدّد فلا يتأتّى إلّا بمقدّمتين،
إحداهما أنّ الجسم لا يخلو عن ميل. و ثانيتهما أنّ الجسم البسيط يمتنع أن يكون فيه
ميلان مختلفى الجهة. و يمتنع أن يتحرك المحدّد حركة غير المستديرة. فاذن فيها ميل
مستدير. و لا عائق لها، لأنّ العائق عن الحركة يجب أن يكون ذا ميل في جهة مخالفة
لجهة ميل المتحرّك. و ليس هنا جهة اخرى، و كلّ ميل بلا عائق يقتضي حركة. فاذن
المحدّد متحرك على الاستدارة. فهذه مقدّمات لا بدّ منها في بيان ما قصد بيانه. و
على كلّ مقدّمة كلام لم يشر إلى شيء من ذلك. فأعرضنا عنه اقتداء به، لئلا نكون
خائضين في غير ما قصدناه.
قال:
و أما العناصر الارض و الماء و الهواء و النار
فزعموا: أنّ الأرض محفوفة بالماء و الماء، بالهواء، و الهواء
بالنار، و أنّها كرات منطو بعضها على البعض إلّا الماء. و زعموا: أنّ الحركة
مسخنة. فالجرم الملاصق للفلك يجب أن يكون في غاية السخونة و اللطافة، و هو النار.
و الّذي يكون في غاية البعد يجب أن يكون في غاية البرودة و الكثافة، و هو الأرض.
و الّذي يلاصق النار، و هو الهواء، يكون تاليا لها في اللطافة، و
الّذي يلاصق الأرض يتلوها في الكثافة. فهذا هو الرصف المحكم في ترتيب العناصر إلّا
أنّ هذا الكلام يقتضي أن يكون الأرض أبرد من الهواء، و هو على خلاف قولهم، و أن
يكون النار في غاية الرطوبة، لأنّ الرطوبة عندهم مفسّرة بسهولة قبول الأشكال، لا
بسهولة الالتصاق بالغير و إلّا لم يكن الهواء رطبا.
أقول: الحكماء لا يزعمون: أنّ حرارة النار مقتضاة حركة الفلك، بل إنّما
قالوا: إنّها مقتضاة صورتها و هى ذاتية. و ما يفيده الفلك يكون غريبا، و إنّما نقل
ذلك عن قول الكندى و أمثاله. و قد ذكر ابن سينا ذلك نقلا عنه و قال: إنّه كان شديد
التذبذب، و كذلك القول في تعليل برودة الأرض و كثافتها