و توضيح ذلك بالبيان الحكمي: أن الروح الإنسانية من جهة أن من شأنها
أن يتجلى فيها الأشياء مشابهة للمرآة، لكن هذه الحالة في أول الفطرة للنفس أمر
بالقوة لكل أحد من الناس ثم يصير بمزاولة الأعمال و الأفعال خارجة من القوة إما
إلى الفعل و الكمال، أو إلى البطلان و الزوال. فإذا وقع الإنسان في السلوك العلمي
و الرياضة الدينية و التكاليف الشرعية التي هي بمنزلة تصقيل المرآة يخرج النفس من
القوة إلى الفعل و يصير عقلا بالفعل بعد ما كانت عقلا بالقوة، فيكون كمرآة مجلوة
يتراءى فيها صور الموجودات على ما هي عليها، و إذا لم يقع في هذه الطريقة و هي
الصراط المستقيم المذكور في القرآن و لم يخرج ذاته في طريق الآخرة بالتصفية و
الرياضة و التطهير و التنوير من القوة إلى الفعل، بل سلك مسلك الدنيا و صارت نفسه
متدنسة بدنس الشهوات، متنجسة برجس الفسوق و السيئات، بطلت فيه القوة و الاستعداد،
لأن يصير منورة بأنوار العلوم، و لأن يتجلى فيها حقائق الأمثال و الرسوم، و لأن
يكون عقلا و معقولا بالفعل لا بالقوة. و بالجملة، قد بطلت القوة و زالت الفرصة
بالكلية و صارت النفس حسا بالفعل بعد ما كانت عقلا بالقوة، و ظلمة بالفعل بعد ما
كانت نورا بالقوة، و بهيمة أو شيطانا بالفعل بعد ما كانت ملكا بالقوة، كحديد كان
أولا قابلا للإذابة و التصقيل لتظهر فيها مثل المحسوسات فإذا غاص في جرمه الرين و
النداوة و الوسخ، بطل استعداده في كونه مرآتا، فكذلك إذا بطل استعداد النفس لأن
يكون جوهرا إدراكيا و وجودا علميا، صارت جوهرا من جواهر الدنيا بالفعل، و كل ما
كان الشيء جوهرا دنيويا ظلمانيا بالفعل، يحترق في الآخرة بنار السعير، إذ الدنيا
و ما فيها يجاء بها يوم القيامة بصورة نار جهنم و شرارتها و ظلماتها فيحترق بمن
فيها، كما في قوله تعالى:
«وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى»و قوله: