إن التعقل إنما هو
بتقشير المعلوم ، عن المادة والأعراض المشخصة له ، حتى لا يبقى إلا الماهية
المعراة عن القشور ، كالإنسان المجرد عن المادة الجسمية ، والمشخصات الزمانية والمكانية
والوضعية وغيرها ، بخلاف الإحساس المشروط بحضور المادة ، واكتناف الأعراض والهيئات
الشخصية ، والخيال المشروط ببقاء الأعراض والهيئات المشخصة ، من دون حضور المادة ،
قول على سبيل التمثيل للتقريب ، وإلا فالمحسوس صورة مجردة علمية ، واشتراط حضور
المادة والاكتناف بالأعراض ، المشخصة لحصول الاستعداد في النفس للإحساس ، وكذا
اشتراط الاكتناف بالمشخصات للتخيل ، وكذا اشتراط التقشير في التعقل ، للدلالة على
اشتراط تخيل أزيد من فرد واحد ، في حصول استعداد النفس لتعقل الماهية الكلية ، المعبر
عنه بانتزاع الكلي من الأفراد.
وتبين مما تقدم أيضا أن الوجود ينقسم ، من
حيث التجرد عن المادة وعدمه ، إلى ثلاثة عوالم كلية ، أحدها عالم المادة والقوة ،
والثاني عالم التجرد عن المادة دون آثارها ، من الشكل والمقدار والوضع وغيرها ، ففيه
الصور الجسمانية وأعراضها وهيئاتها الكمالية ، من غير مادة تحمل القوة والانفعال ،
ويسمى عالم المثال والبرزخ ، بين عالم العقل وعالم المادة ، والثالث عالم التجرد
عن المادة وآثارها ، ويسمى عالم العقل.
وقد قسموا عالم المثال إلى ، المثال
الأعظم القائم بذاته ، والمثال الأصغر القائم بالنفس ، الذي تتصرف فيه النفس كيف
تشاء ، بحسب الدواعي المختلفة الحقة والجزافية ، فتأتي أحيانا بصور حقة صالحة ، وأحيانا
بصور جزافية تعبث بها.
والعوالم الثلاثة المذكورة مترتبة طولا
، فأعلاها مرتبة وأقواها وأقدمها وجودا ، وأقربها من المبدإ الأول تعالى ، عالم
العقول المجردة ، لتمام فعليتها وتنزه ذواتها عن شوب المادة والقوة ، ويليه عالم
المثال المتنزه عن المادة دون آثارها ، ويليه عالم المادة موطن كل نقص وشر ، ولا
يتعلق بما فيه علم ، إلا من