و هو علمه بقبحه و
باستغنائه عنه، و العلم بقبح القبيح و بالاستغناء عنه صارف قويّ عن فعله، و مع
الصارف القويّ الذي لا يقابله داع، لا يتصوّر وقوع الفعل من القادر عليه، كلّ هذا
قد تقدّم.
و قد بيّن الشيوخ أنّه
تعالى لا يفعل القبيح بالرجوع إلى الشاهد، و لهذا قد ذمّوا القول في أنّ العباد
فاعلون لتصرّفاتهم على القول بأنّه تعالى لا يفعل القبيح، فقالوا: قد علمنا أنّ
المخيّر بين الصدق و الكذب في الشاهد بأن يقال له: إن صدقت اعطيت دينارا، و كذا إن
كذبت دينارا لا على أن يعطى دينارين يفعلهما، و إنّما تعطى دينارا واحدا بفعل
أيّهما كان، و هو يعلم قبح الكذب و استغناءه بالصدق عنه، فانّه قطّ لا يختار الكذب
على الصدق بوجه من الوجوه، و هذا معلوم ضرورة. و إنما لا يختار لعلمه بقبح الكذب و
استغنائه منه، لأنّه لو اختلّ بعض هذه الامور لتصوّر أن يختار الكذب. و إذا كان
كذلك و قد علمنا أنّ حال القديم مع سائر القبائح هذه الحالة، لأنّه يعلم قبح جميعها
و استغناءه عنها، وجب أن لا يختار شيئا منها، و كذلك لا يخلّ تبارك و تعالى
بالواجب في حكمته، لأنّه تعالى يعلم وجوبه و استغناءه عن الإخلال به، إذ لا يلحقه
في فعله مشقّة و لا ينتفع بالإخلال به و لا يدفع مضرّة عن نفسه فلا يخلّ به.
ألا ترى أنّ أحدنا إذا علم
وجوب ردّ الوديعة عليه و استغناءه عن الإخلال به بأن يعلم أنّه إن ردّها يحصل له
مثلها من المنفعة و إن حبسها لم تحصل له منفعة زائدة على ما فيها، فإنّه لا يخلّ
بردّها، بل لا بدّ من أن يردّها، و إنّما لا يخلّ بالردّ، لاجتماع هذه الامور فيه،
باعتبار أنّه لو علم أو ظنّ أنّه لا يحصل له مثلها عند ردّها أو لم يعلم وجوب
الردّ، فانّه يتصوّر أن يخلّ بالرّد، و هذا حال القديم مع سائر الواجبات، فلا يخلّ
بشيء منها.
فإن قيل: المخيّر بين
الصدق و الكذب إنّما لا يختار الكذب لعلمه بأنّه يستحقّ العقاب عليه و أنّه يثاب
على الصدق، فلهذا لم يختر الكذب على