و هؤلاء أصحاب الفكرة
يعظمون الفكر، و يقولون هو المتوسط بين المحسوس و المعقول، فالصور من المحسوسات
ترد عليه، و الحقائق من المعقولات ترد عليه أيضا. فهو مورد العلمين من العالمين،
فيجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الوهم و الفكر عن المحسوسات بالرياضات البليغة، و الاجتهادات
المجهدة حتى إذا تجرد الفكر عن هذا العالم تجلى له ذلك العالم، فربما يخبر عن
مغيبات الأحوال، و ربما يقوى على حبس الأمطار، و ربما يوقع الوهم على رجل حي
فيقتله في الحال، و لا يستبعد ذلك فإن للوهم أثرا عجيبا في تصريف الأجسام و التصرف
في النفوس.
أ ليس الاحتلام في النوم
تصرف الوهم في الجسم؟ أ ليست إصابة العين تصرف الوهم في الشخص؟ أ ليس الرجل يمشي
على جدار مرتفع فيسقط في الحال و لا يأخذ من عرض المسافة في خطواته سوى ما أخذه
على الأرض المستوية؟.
و الوهم إذا تجرد عمل
أعمالا عجيبة، و لهذا كانت الهند تغمض عينها أياما لئلا يشتغل الفكر و الوهم
بالمحسوسات و مع التجرد إذا اقترن به وهم آخر اشتركا في العمل خصوصا إذا كانا
متفقين غاية الاتفاق.
و لهذا كانت عادتهم إذا
دهمهم أمر أن يجتمع أربعون رجلا من المهذبين المخلصين المتفقين على رأي واحد في
الإصابة، فيتجلى لهم المهم الذي يهضمهم حمله، و يندفع عنهم البلاء الملم الذي
يكادهم ثقله، و منهم البكرنتينية، يعني المصفدين بالحديد، و سنتهم حلق الرءوس و
اللحى، و تعرية الأجسام ما خلا العورة، و تصفيد البدن من أوساطهم إلى صدورهم لئلا
تنشق بطونهم من كثرة العلم و شدة الوهم و غلبة الفكر. و لعلهم رأوا في الحديد
خاصية تناسب الأوهام؛ و إلا فالحديد كيف يمنع انشقاق البطن؟ و كثرة العلم كيف توجب
ذلك[1]؟
[1] و ليس من سننهم أن
يعلموا أحد و لا يكلموه دون أن يدخل في دينهم. و يأمرون من يدخل في دينهم بالصدقة
للتواضع بها و من دخل في دينهم لم يصفد بالحديد حتى يبلغ المرتبة التي يستحق بها
ذلك، و تصفيدهم أنفسهم من أوساطهم إلى صدورهم لئلا تنشق بطونهم زعموا من كثرة
العلم و غلبة الفكر.