المادة؛ تشبثت بالطبيعة، و
صارت المادة شبكة لها، فساح عليها الواهب الأول، فبعث إليها واحدا من عالمه، و
ألبسه لباس المادة ليخلص الصور عن الشبكة، لا ليكون هو المتشبث بها، المنغمس فيها،
المتوسخ بأوضارها[1]، المتدنس بآثارها، و إلى هذا المعنى
أشار حكماء الهند رمزا بالحمامة المطوقة، و الحمامات الواقعة في الشبكة[2].
ثم قالوا: معاشر الصابئة!
أبدا تشنعون علينا بالمادة و لوازمها، و ما لم نفصل القول فيها لم ننج من تشنيعكم.
فنقول: النفوس البشرية و
خصوصا النبوية من حيث إنها نفوس فهي مفارقة للمادة، مشاركة لتلك النفوس الروحانية:
إما مشاركة في النوع بحيث يكون التمييز بالأعراض و الأمور العرضية، و إما مشاركة
في الجنس بحيث يكون الفصل بالأمور الذاتية، ثم زادت على تلك النفوس باقترانها
بالجسد أو بالمادة. و الجسد لم ينتقص منها، بل كملت هي لوازم الجسد، و كملت بها،
حيث استفادت من الأمور الجسدانية ما تجسدت بها في ذلك العالم من العلوم الجزئية، و
الأعمال الخلقية. و الروحانيات فقدت هذه الأبدان لفقدان هذا الاقتران، فكان
الاقتران خيرا لا شرّ فيه، و صلاحا لا فساد معه، و نظاما لا ثبج[3] له، فكيف يلزمنا ما ذكرتموه؟.
قالت الصابئة:
الروحانيات: نورانية علوية
لطيفة. و الجسمانيات: ظلمانية، سفلية، كثيفة.
فكيف يتساويان؟ و الاعتبار
في الشرف و الفضيلة بذوات الأشياء و صفاتها، و مراكزها و محالها. فعالم
الروحانيات: العلو لغاية النور و اللطافة[4]. و عالم الجسمانيات: السفل
[1] الأوضار، الواحد
وضر: و هو وسخ الدسم و اللبن و غسالة السقاء.
[2] و هي في كتاب كليلة
و دمنة، و هي مثل عن إخوان الصفاء كيف يبتدئ تواصلهم و يستمتع بعضهم ببعض و العاقل
لا يعدل بالإخوان شيئا فالإخوان هم الأعوان على الخير كله و المؤاسون عند ما ينوب
من المكروه.
[3] الثبج: الاضطراب و
النتوء، و رجل ثبج: أي مضطرب الخلق.
[4] فالعقول تشهد بأن
النور أشرف من الظلمة، و العلوي خير من السفلي، و اللطيف أكمل من الكثيف.
هذا كله إشارة إلى
المادة، و سبب الشرف الانقياد لأمر رب العالمين، ففي قوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ-