الجسمانيات مركبة من مادة
و صورة، و المادة لها طبيعة عدمية، و إذا بحثنا عن أسباب الشر و الفساد، و السفه و
الجهل، لم نجد لها سببا سوى المادة و العدم، و هما منبعا للشر.
و الروحانيات غير مركّبة
من المادة و الصورة، بل هي صورة مجرّدة، و الصورة لها طبيعة وجودية، و إذا بحثنا
عن أسباب الخير، و الصلاح، و الحكمة، و العلم لم نجد لها سببا سوى الصورة، و هي
منبع الخير، فنقول: ما فيه أصل الخير، أو ما هو أصل الخير، كيف يماثل ما فيه أصل
الشرّ؟!
أجابت الحنفاء:
بأن ما ذكرتم في المادة
أنها سبب الشر فغير مسلم، فإن من المواد ما هو سبب الصور كلها عند قوم، و ذلك هو
الهيولى الأولى، و العنصر الأول، حتى صار كثير من قدماء الفلاسفة إلى أن وجودها
قبل وجود العقل. ثم إن سلم فالمركب من المادة و الصورة كالمركب من الوجوب و الجواز
عندكم، فإن الجواز له طبيعة عدمية، و ما من وجود سوى وجود الباري تعالى إلا وجوده
جائز بذاته، واجب بغيره، فيجب أن يلازمه أصل الشر.
قالوا: و إن سلم لكم أيضا
تلك المقدمة، فعندنا صور النفوس البشرية، و خصوصا صور النفوس النبوية، كانت موجودة
قبل وجود المواد، و هي المبادي الأولى، حتى صار كثير من الحكماء إلى إثبات أناس
سرمديين[1]، و هي الصورة المجردة التي كانت
موجودة قبل العقل كالظلال حول العرش يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ[2]
و كانت هي أصل الخير و مبدأ الوجود، و لكن لما ألبست الصور البشرية لباس
[1] السرمد: الدائم
الذي لا ينقطع، و السرمدي ما لا أول له و لا آخر.