فيما عدا الشهور التي تولى فيها يزيد بن الوليد بن عبد الملك السلطة بعد انقلاب قاده قدرية الشام، و لا شيء يمنع من تصوّر كون العباسيين قد حاولوا استغلال معارضة الحركة القدرية للأمويين لصالحهم، و ربما أوضح ذلك بعض الغوامض في قيام الدعوة العباسية.
مهما يكن من أمر يبدو أن ابن إسحاق كان قد صنّف السيرة أو جزءا منها قبل مغادرة المدينة، و عند ما نزل بالكوفة حدّث عنه كوفيون كثيرون، ثم انتقل إلى بغداد في ركاب المنصور بعد بناء المدينة فحدّث عنه بها آخرون.
و يهمّنا هنا أن نذكر ثلاثة من هؤلاء الذين حدّثوا عنه لصلتهم بسيرته، إنهم: زياد بن عبد اللّه البكّائي (183 ه/ 799 م)، و محمد بن سلمة الحرّاني (191 ه/ 807 م)، و يونس بن بكير (199 ه/ 814 م). و قد كلّف المنصور ابن إسحاق بملازمة ابنه المهدي، فصحبه طويلا و سافر معه إلى خراسان حيث حدّث هناك بالري و أملى. و بأمر من المنصور صنّف ابن إسحاق السيرة للمهدي فلما اطّلع عليها المنصور طلب إليه القيام ببعض التعديلات فيها.
و هكذا تكوّنت ثلاث «نسخ من السيرة»، تلك الأولى من العهد المدني، و الثانية من العهد الكوفي، و الثالثة من العهد البغدادي، و قد بقيت أجزاء من النسختين الأولى و الثانية تسمحان لنا بالذهاب إلى أنّ المنصور أراد من ابن إسحاق التركيز بشكل أوضح على دور العباس بن عبد المطلب و أخباره مع النبي و خدماته الجلي للإسلام، و ربما رافق ذلك طمس بعض ما يتصل بنواحي ضعف العباس و أعماله المعادية للرسول قبل إسلامه. و نرى أن رواية يونس بن بكير تمثّل الشكل الأول غالبا بينا تمثّل رواية البكّائي [1] الشكل الثاني و رواية محمد بن سلمة الحرّاني الشكل الثالث. و نستند في ذلك إلى الطابع الشيعي الشديد الذي يبدو في بعض روايات يونس بن بكير، ففي رواية لسلمان الفارسي