و ترك النّاس من ثلاث: كان لا يذمّ أحدا و لا يعيره و لا يعيبه، و لا يطلب عورته، و لا يتكلّم إلّا فيما رجا ثوابه، إذا تكلّم أطرق جلساؤه، و كأنما على رؤوسهم الطّير، فإذا سكت تكلموا، و لا يتنازعون عنده الحديث، و من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، يضحك ممّا يضحكون منه، و يتعجّب مما يتعجّبون منه.
و يصبر للغريب على الجفوة في منطقه و مسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم و يقول: «إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرفدوه و لا يقبل الثناء إلا من مكافئ، و لا يقطع على أحد حديثه حتّى يجوز فيه فيقطعه بنهي أو قيام» و يؤلّفهم و لا ينفرهم و يكرم كريم كل قوم و يوليه عليهم و يحذّر الناس و يحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره و لا خلقه، و يتفقد أصحابه، و يسأل الناس عما في الناس، و يحسّن الحسن و يقويه، و يقبّح القبيح و يوهيه معتدل الأمر غير مختلف، و لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق و لا يجاوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة و مؤازرة لا يقوم من مجلسه إلّا على ذكر، و إذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، و يأمر بذلك و لا يوطّن المواطن و ينهى عن إيطانها، يعطي كلّ جلسائه بنصيبه و لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، و من سأله حاجة لم يردّه إلّا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه و خلقه، فصار لهم أبا، و صاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس علم و حياء و صبر و أمانة، لا ترفع فيه الأصوات، و لا تؤبن فيه الحرم، و لا تنثى فلتاته متعادلين، يتفاضلون فيه بالتّقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير، و يرحمون فيه الصغير و يؤثرون ذا الحاجة، و يحفظون الغريب».
و روى الإمام أحمد و ابن سعد عن جابر بن سمرة- رضي اللّه تعالى عنه- قال: كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلّم) طويل الصّمت، و كان أصحابه يتناشدون الأشعار في المسجد و أشياء من أمور الجاهلية فيضحكون و يتبسم.
و روى ابن سعد و الترمذي في الشمائل عن زيد بن ثابت- رضي اللّه تعالى عنه- قال:
كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلّم) إذا ذكرنا الدّنيا ذكرها معنا، و إذا ذكرنا الطعام ذكره معنا.
و روى الإمام أحمد عن ابن مسعود- رضي اللّه تعالى عنه- قال: كنت عند رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلّم) في رجال من قريش، فذكروا النّساء فتحدثوا فيهن، فتحدث معهم حتى أحببت أن يسكت.
و روى الخرائطيّ عن أبي حازم و حفص بن عبد اللّه بن أنس- رضي اللّه تعالى عنه- أن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلّم) كان يحدث أصحابه عن أمر الآخرة، فإذا رآهم قد كسلوا عرف ذلك فيهم