سبيله، و خرج حتّى أتى مسجد رسول اللّه- (صلّى اللّه عليه و سلم)- فبات به حتّى أصبح فلما أصبح غدا فلم يدر أنّى هو حتّى السّاعة فذكر شأنه لرسول اللّه- (صلّى اللّه عليه و سلم)-.
قال أهل المغازي وجدّ رسول اللّه- (صلّى اللّه عليه و سلم)- في حصارهم، فلمّا اشتدّ عليهم الحصار أرسلوا إلى رسول اللّه- (صلّى اللّه عليه و سلم)- ليلة السّبت أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر [2] فنستشيره في أمرنا فأرسله إليهم رسول اللّه- (صلّى اللّه عليه و سلم)- فلما رأوه قام إليه الرّجال و بهش إليه النّساء و الصّبيان يبكون في وجهه، فرقّ لهم، فقال كعب بن أسد: يا أبا لبابة، إنّا قد اخترناك على غيرك، إنّ محمّدا قد أبى إلّا أن ننزل على حكمه أفترى أن ننزل على حكمه؟ قال نعم، و أشار بيده إلى حلقه أي أنه الذّبح. قال أبو لبابة: فو اللّه ما زالت قدماي عن مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت اللّه و رسوله. فندمت و استرجعت فنزلت و إنّ لحيتي لمبتلّة من الدّموع، و النّاس ينتظرون رجوعي إليهم حتّى أخذت من وراء الحصن طريقا أخرى، حتى جئت إلى المسجد، و لم آت رسول اللّه- (صلّى اللّه عليه و سلم)- فارتبطت و كان ارتباطي على الأسطوانة المخلقة الّتي يقال لها أسطوانة التّوبة، و قلت لا أبرح من مكاني حتّى أموت أو يتوب اللّه عليّ ممّا صنعت، و عاهدت اللّه تعالى بألا أطأ أرض بني قريظة أبدا و لا أرى في بلد خنت اللّه تعالى و رسوله- (صلّى اللّه عليه و سلم)- فيه أبدا،
و بلغ رسول اللّه- (صلّى اللّه عليه و سلم)- ذهابي و ما صنعت، فقال: «دعوه حتّى يحدث اللّه تعالى- فيه ما شاء، لو كان جاءني استغفرت له، فإذا لم يأتني و ذهب، فدعوه».
و أنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال 27] قال أبو لبابة: فكنت في أمر عظيم، في حرّ شديد عدّة ليال لا آكل فيهنّ و لا أشرب، و قلت: لا أزال هكذا حتّى أفارق الدّنيا، أو يتوب اللّه عليّ. و أذكر رؤيا رأيتها في النّوم و نحن محاصرون بني قريظة. كأنّي في حمأة آسنة، فلم أخرج منها حتّى كدت أموت من ريحها، ثمّ أرى نهرا جاريا فأراني اغتسلت فيه حتّى استنقيت و أراني أجد ريحا طيّبة فاستعبرتها أبا بكر فقال: لتدخلنّ في أمر تغتمّ له، ثمّ يفرج عندئذ، فكنت أذكر قول أبي بكر و أنا مرتبط، فأرجو أن ينزل اللّه تعالى- توبتي. قال: فلم أزل كذلك حتّى ما أسمع الصّوت من الجهد- و رسول اللّه- (صلّى اللّه عليه و سلم)- ينظر إليّ.
قال ابن هشام: أقام مرتبطا ستّ ليال تأتيه امرأته كلّ صلاة فتحلّه حتّى يتوضّأ و يصلي ثمّ يرتبط.
[2] أبو لبابة، الأنصاري المدني، اسمه بشير، و قيل رفاعة بن عبد المنذر، صحابي مشهور، و كان أحد النقباء، و عاش إلى خلافة عليّ، و وهم من سماه مروان. التقريب 2/ 467.