و أجيب عن الثاني و هو قوله: «بينا أنا بين النائم و اليقظان، ثم استيقظت» بأنه لا حجة في ذلك إذ يحتمل قوله «بين النائم و اليقظان» إلى آخره أنه أول وصول الملك كان و هو نائم بشهادة
حديث الحسن: «بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهزّني بعقبه، فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي»، إلى أن قال: «فجرّني إلى باب المسجد فإذا أنا بدابّة»
أو أنه محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج إلى باب المسجد، فأركبه البراق فاستمر في يقظته. و ليس في الحديث أنه كان نائما في القصة كلها. و أما قوله: «ثم استيقظت و أنا بالمسجد الحرام»، قال الحافظ: «إن قيل بالتعدّد فلا إشكال و إلا حمل على أن معناه أقفت أي أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة عجائب الملكوت و رجع إلى العالم الدنيوي فلم يرجع إلى عالم البشرية إلا و هو بالمسجد الحرام».
قال ابن كثير: «و يؤيد ذلك أنه (صلّى اللّه عليه و سلم) كان إذا أوحي إليه يستغرق فيه فإذا انتهى رجع إلى حالته الأولى، فكنّي عنه بالاستيقاظ كما
في حديث عائشة، حين ذهب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم) إلى الطائف فكذّبوه، قال: «فرجعت و أنا مهموم فلم أستفق إلا بقرن الثعالب»
أي و هو مكان. و في حديث أبي أسيد- بضم الهمزة و فتح المهملة- حين جاء بابنه إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم) ليحنّكه، فوضعه على فخذ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم). و اشتغل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم) بالحديث مع الناس. فرفع أبو أسيد ابنه ثم استيقظ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم)، فلم يجد الصبي فسأل عنه فقالوا «رفع»، فسمّاه المنذر أحد رواته استيقاظا. و هذا الحمل أحسن من تغليط شريك.
تنبيه: قال بعضهم إنه (صلّى اللّه عليه و سلم) كان تلك الليلة نائم العين حاضر القلب، غمّض عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن اللّه. قال القاضي: «هذا غير صحيح لأن المقام مشاهدة عجائب الملكوت بشهادة قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الإسراء: 1]، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18]، إذ المتبادر منه رؤية العين، و لا يصح أيضا أن تكون في وقت صلاته بالأنبياء.
و أما ما يعزى لعائشة رضي اللّه عنها، فلم يرد بسند يصلح للحجة بل في سنده انقطاع وارد مجهول كما تقدم. و قال أبو الخطّاب بن دحية في التنوير: إنه حديث موضوع عليها.
و قال في معراجه الصغير: «قال إمام الشافعية القاضي أبو العباس بن سريج: هذا حديث لا يصح و إنما وضع ردّ الحديث الصحيح». انتهى.
و على تقدير أن يكون صحيحا ورد بالبناء للمفعول فعائشة رضي اللّه عنها لم تحدّث عن مشاهدة لأنها لم تكن زوجة إذ ذاك، أو بالبناء للفاعل: «ما فقدت جسده الشريف» فعائشة لم يدخل بها إلا بالمدينة بالإجماع، و لا كانت وقت الإسراء في سنّ من يضبط الأمور، لأنها في سنة الهجرة كانت بنت ثمان سنين. فعلى القول بأن الإسراء كان قبلها بسنة تكون بنت سبع،