الباب الأول في بعض فوائد قوله تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء 1].
الكلام على هذه الآية من وجوه:
الأول: في سبب نزولها:
قال الإمام العالم العلّامة أبو حيّان أثير الدين محمد بن يوسف الغرناطي- بفتح الغين المعجمة و سكون الراء و بالطاء المهملة- في تفسيره المسمى بالنهر: «سبب نزولها أن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم) لما ذكر الإسراء به كذّبوه، فأنزلها اللّه تعالى».
الثاني: في وجه اتصال هذه السورة بما قبلها:
قال الإمام فخر الدين الرازي، و البرهان النسفي: «وجه الاتصال بما قبلها أن في تلك السورة ذكر الخليل (صلّى اللّه عليه و سلم) و ذكر أوصافه الشريفة، و تشريعاته العليّة من الحضرة الأزلية، و الأمر باتباع ملّة الحنيفية، و الاقتداء به في العقائد الدينية، و في هذه السورة ذكر من اتّبع ملّته بالصدق، و أقام سنّته على الحق، و في آخر تلك السورة أمر نبيّنا (صلّى اللّه عليه و سلم): ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل 125]. و أمره بعد ذلك بالصّبر فقال: وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل 127] و الصّبر هو التحمل للمكاره، و التّحمل من جملة ما يؤدّي إلى التّجمل، و منه ما ذكر في أول هذه السورة.
النّهر: لما أمره اللّه تعالى بالصبر، و نهاه عن الحزن عليهم، و أن يضيق صدره من مكرهم، و كان من مكرهم نسبته إلى الكذب و السّخر و الشّعر و غير ذلك مما رموه به، فأعقب اللّه تعالى ذلك بشرفه و فضله و احتفائه به و علو منزلته عنده.
الشيخ (رحمه اللّه تعالى) في مناسباته: «هذه السورة و الأربعة بعدها من قديم ما نزل، روى الشيخان عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أنه قال في سورة بني إسرائيل و الكهف و مريم و طه و الأنبياء: هنّ من العتاق الأول و هنّ من تلادي».
التّلاد- بكسر المثنّاة الفوقية و تخفيف اللام أي مما حفظ قديما، و هذا وجه في ترتيبها، و هو اشتراكها في قدم النزول و كونها مكيّات، و كلها مشتملة على القصص.
و ظهر لي في وجه اتصالها بسورة النحل أنه سبحانه و تعالى لما قال في آخرها: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل 124]. فسّر في هذه السورة شريعة أهل السبت و شأنهم، فذكر فيها جميع ما شرع لهم في التوراة.
كما روى ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال: «التوراة كلها في خمس