و منها: ما رواه الإمام أحمد، و البخاري في «الأدب» و أبو عروبة الحراني في «الأوائل» و الحاكم من طريق ميمون بن مهران- (رحمه اللّه تعالى)- قال: رفع لعمر صك محله شعبان فقال: أيّ شعبان: الماضي، أو الذي نحن فيه أو الآتي؟ ضعوا للناس شيئا يعرفونه من التاريخ.
فقال بعضهم اكتبوا على تاريخ الروم، فقيل: إنهم يكتبون من عهد ذي القرنين، فهذا يطول، و قال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الفرس، فقيل: إن الفرس كلما قام ملك طرح من كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا: كم أقام رسول اللّه- (صلّى اللّه عليه و سلّم)- بالمدينة فوجده عشر سنين، فكتب التاريخ من هجرة رسول اللّه- (صلّى اللّه عليه و سلّم)-.
و روى ابن عساكر عن سعيد بن المسيب- (رحمه اللّه تعالى)- قال: أول من كتب التاريخ عمر لسنتين و نصف من خلافته، فكتب لسنة عشر من المحرم بمشورة عليّ.
و روى ابن أبي خيثمة عن ابن سيرين قال: قدم رجل من اليمن فقال: رأيت شيئا يسمونه التاريخ يكتبون من عام كذا و بشهر كذا، فقال عمر: هذا حسن فأرخوا، فلما أجمع على ذلك قال قوم: أرخوا للمولد، و قال قائل: للمبعث، و قال قائل: من حين خرج مهاجرا، و قال آخرون:
من حين توفي، فقال عمر: «أرّخوا من خروجه من مكة إلى المدينة».
ثم قال: بأي شهر نبدأ؟ فقال قوم: برجب، و قال قوم: برمضان فقال عثمان: أرخوا من المحرم، فإنه شهر حرام، و هو أول السنة، و منصرف الناس من الحج، قال: فكان ذلك سنة سبع عشرة في ربيع الأول من الهجرة.
و روى الحاكم عن سعيد بن المسيب- (رحمه اللّه تعالى)- لما جمع عمر الناس سألهم من أي يوم نكتب التاريخ، فقال علي- رضي اللّه تعالى عنه- من يوم هاجر النبي- (صلّى اللّه عليه و سلّم)- و ترك أرض الشرك ففعله عمر.
قال الحافظ- (رحمه اللّه تعالى)-: و استفدنا من مجموع هذه الآثار أن الذي أشار بالمحرم عمر، و عثمان، و علي- رضي اللّه تعالى عنهم-.
الثالث:
و قد أبدى بعضهم بالبداءة بالهجرة مناسبة فقال: كانت القضايا التي اتفقت له و يمكن أن يؤرخ بها أربع: مولده، و مبعثه، و هجرته، و وفاته فرجح عندهم جعلها من الهجرة، لأن المولد و المبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين سنته.
و أما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما يوقع تذكره من الأسف عليه فانحصر في الهجرة، و إنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم، لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة، و هي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة، و العزم على الهجرة هلال المحرم، فناسب أن يجعل مبتدأ.