فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول، إما على سبيل التغليب، و إما على إرادة المعنى الأعم، إذ القول فعل اللسان.
قوله (صلى اللَّه عليه و سلم): «عصموا»
أي منعوا، و أصل العصمة من العصام و هو الخيط الّذي يشد به فم القربة ليمنع سيلان الماء.
قوله (صلى اللَّه عليه و سلم): «حسابهم على اللَّه»،
أي في أمر سرائرهم، و لفظة «على» مشعرة بالإيجاب، و ظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام، أو على سبيل التشبيه، أي هو كالواجب على اللَّه في تحقيق الوقوع، و فيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة و الحكم بما يقتضيه الظاهر، و الاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم، خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة، و قد تقدم فيه، و يؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد، الملتزمين للشرائع، و قبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن.
فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك مؤدي الجزية و المعاهد؟
الجواب من أوجه:
أحدها: دعوى النسخ، بأن يكون الإذن بأخذ الجزية و المعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ.
ثانيها: أن يكون من العام الّذي خص منه البعض، لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب. فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح في العموم.
ثالثها: أن يكون من العام الّذي أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله (صلى اللَّه عليه و سلم) «أقاتل الناس»، أي المشركين من غير أهل الكتاب، و يدل عليه رواية النسائي بلفظ: «أمرت أن أقاتل المشركين». فإن قيل: إذا تم هذا في أهل الجزية، لم يتم في المعادين و لا فيمن منع الجزية، أجيب بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما في الهدنة، و مقاتلة من امتنع من أداء الجزية، بدليل الآية.
رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة و غيرها، التعبير عن إعلاء كلمة اللَّه، و إذعان المخالفين، فيحصل في بعض بالقتل، و في بعض بالجزية، و في بعض بالمعاهدة.
خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه من جزية أو غيرها.
سادسها: أن يقال الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام و سبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا بما يؤديهم إلى الإسلام، و هذا أحسن، و يأتي فيه ما في الثالث و هو آخر الأجوبة. و اللَّه تعالى أعلم (فتح الباري): 1/ 102- 105، كتاب الإيمان باب (17) فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، حديث رقم (25).
نام کتاب : إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال و الأموال و الحفدة و المتاع نویسنده : المقريزي، تقي الدين جلد : 3 صفحه : 124