و قد أذنت له في لبس الطيلسان، لأنه شهادة بالأهلية، و ما يجعل على الأكتاف دون الرأس يقال له رداء فقط، و ربما قيل له طيلسان أيضا مجازا. و صح عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه و له حكم المرفوع «التقنع من أخلاق الأنبياء». و قد ذكر بعضهم أن الطيلسان الخلوة الصغرى و في حديث «لا يتقنع إلا من استكمل الحكمة في قوله و فعله» و كان ذلك من عادة فرسان العرب في المواسم و الجموع كالأسواق.
و أول من لبس الطيلسان بالمدينة جبير بن مطعم رضي اللّه تعالى عنه. و عن الكفاية لابن الرفعة أن ترك الطيلسان للفقيه مخلّ بالمروءة أي و هو بحسب ما كان في زمنه (رحمه اللّه). و في الترمذي «لم تكن عادته (صلى اللّه عليه و سلم) التقنع إنما كان يفعله لحر أو برد».
و تعقب بأن في حديث أنس «أنه (صلى اللّه عليه و سلم) كان يكثر التقنع» و في طبقات ابن سعد مرسلا أنه ذكر لرسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم) فقال: «هذا ثوب لا يؤدي شكره» أي لأن فيه غض البصر، و من ثم قيل إنه الخلوة الصغرى كما تقدم.
و لما قيل لأبي بكر رضي اللّه تعالى عنه ذلك، أي هذا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم) متقنعا، قال أبو بكر: فدا له أبي و أمي، و اللّه ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قال: فجاء رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم) فاستأذن فأذن له فدخل، أي و تنحى أبو بكر عن سريره و جلس عليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم)، فقال النبي (صلى اللّه عليه و سلم) لأبي بكر رضي اللّه تعالى عنه: «أخرج من عندك، قال أبو بكر: إنما هي أهلك» أي لأنه (صلى اللّه عليه و سلم) كان عقد على عائشة رضي اللّه تعالى عنها كما تقدم، فأمها من جملة أهله و أختها كذلك، و قيل هو على حدّ قول الشخص لآخر أهلي أهلك. و في رواية «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم): اخرج من عندك، فقال أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه: لا عين عليك إنما هما ابنتاي» أي و سكت عن أمهما سترا «قال: فإنه قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول اللّه بأبي أنت و أمي، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم) نعم، أي فبكى أبو بكر سرورا؟ قالت عائشة رضي اللّه تعالى عنها: فرأيت أبا بكر يبكي، و ما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر» و للّه درّ القائل:
ورد الكتاب من الحبيب بأنه* * * سيزورني فاستعبرت أجفاني
غلب السرور عليّ حتى إنني* * * من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين صار الدمع عندك عادة* * * تبكين من فرح و من أحزان
أي و منه: أقرّ اللّه عينه لم يدعى له، و هو قرّة عين لمن يفرح به. و أسخن عينه لمن يدعى عليه: و هو سخنة العين لما يحزن به، لأن دمعة السرور باردة و دمعة الحزن حارة.
و قد روي «أن نبيا من الأنبياء اجتاز بحجر يخرج منه الماء، فسأل ربه عن