و فتر الوحي فترة حتى حزن النبي (صلّى اللّه عليه و سلم) فيما بلغنا حزنا عدا [1] منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال:
يا محمد إنك رسول اللّه حقا، فيسكن لذلك جأشه، و تقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك [2].
جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية
قال ابن حجر: و كان ذلك- أن انقطاع الوحي أياما- ليذهب ما كان (صلّى اللّه عليه و سلم) وجده من الروع، و ليحصل له التشوف إلى العود [3]، فلما تقلصت ظلال الحيرة، و ثبتت أعلام الحقيقة، و عرف (صلّى اللّه عليه و سلم) معرفة اليقين أنه أضحى نبيا للّه الكبير المتعال، و أن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء و صار تشوفه و ارتقابه لمجيء الوحي سببا في ثباته و احتماله عند ما يعود، و جاءه جبريل للمرة الثانية. روى البخاري عن جابر بن عبد اللّه أنه سمع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم) يحدث عن فترة الوحي، قال:
«فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء و الأرض، فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله: فَاهْجُرْ، ثم حمي الوحي و تتابع» [4].
استطراد في بيان أقسام الوحي
قبل أن نأخذ في تفصيل حياة الرسالة و النبوة، نرى أن نتعرف أقسام الوحي الذي هو مصدر الرسالة و مدد الدعوة. قال ابن القيم- و هو يذكر مراتب الوحي:
إحداها: الرؤيا الصادقة
، و كان مبدأ وحيه (صلّى اللّه عليه و سلم).
الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه و قلبه من غير أن يراه
، كما قال النبي (صلّى اللّه عليه و سلم): «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها. فاتقوا اللّه، و أجملوا
[1] بالعين المهلة من العدو، و هو الذهاب بسرعة، و في بعض النسخ «غدا» بالغين المعجمة.
[2] صحيح البخاري التعبير باب أول ما بدئ به رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم) من الوحي الرؤيا الصالحة 2/ 34.