و لا يحتج علينا أهل البصرة أن أحدا من ولاة العراق نزلها إلّا زيادا و عبيد اللّه ابنه. فإنها كانت وطنهما و مشتاهما. و لم يكونا على نتنها و ملوحة مائها و شدة بخرها و كثرة بقّها و كدورة هوائها و فساد طينتها. يطيلان المقام بها. بل كان أكثر مقامهما بالكوفة. و بحسبك أن السمك في نهرها لا يصبر على ملوحة الماء حتى ينتقل. فإذا كان سمك البحر لا يصبر، فكيف ينبغي لذوي العقول أن يفخروا بها؟
[15 ب] و لو لم يكن من فضل بلدنا على بلدهم إلّا أنّا لا نحتاج إلى دباغ العفص و قشور الرمان في الصيف، لكان ذلك فضلا عظيما. و في الحديث (إن الفرات و دجلة من أنهار الجنة) و قد خصنا اللّه بعذوبتهما و بردهما. و حرم اللّه على أهل البصرة أن يذوقوا منهما قطرة حتى يختلط بهما البحر الأجاج. فهم كما قال اللّه عزّ و جلّ «وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ. قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ».
و قدم أبو شدقم العنبري البصرة فملح عليه الماء و اشتد عليه الحرّ و آذاه تهاوش ريحها و كثرة بعوضها. ثم مطرت السماء فصارت ردغاء. فقال:
أشكو إلى اللّه ممسانا و مصبحنا* * * و بعد شقّتنا يا أمّ أيوب
و إنّ منزلنا أمسى بمعترك* * * يزيده طبعا وقع الأهاضيب
ما كنت أدري و قد عمّرت من زمن* * * ما قصر أوس و ما سحّ الميازيب
تهيجني نفحات من يمانية* * * من نحو نجد و تنعاب الغرابيب
كأنهنّ على الأجدال كلّ ضحى* * * مجالس من بني حام أو النوب
يا ليتنا قد حللنا واديا أنفا* * * أو حاجزا نصبا غضّ اليعاسيب
و حبذا شربة من شنّة خلق* * * من ماء صدّاء تسلي [1] كلّ مكروب